معركة تل حارم: إنقاذ مصر من الاحتلال الصليبي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: وقائع تاريخية

اقتباس

ومن هذه المشاهد التي يجب على الخطباء والدعاة تذكير الناس بها في شهر رمضان من كل عام: معركة "تل حارم" التي مثلت قمة المجد للسلطان العظيم والقائد الحكيم نور الدين محمود بن البطل الهمام ومجدد الجهاد الإسلامي ضد الوجود الصليبي بالشام عماد الدين زنكي...

تعتبر حقبة الحروب الصليبية في العصور الوسطى والتي امتدت لأكثر من قرنين من الزمان من أخصب فترات التاريخ الإسلامي والإنساني عموماً بالأحداث والوقائع والمعطيات والدلالات، فقد مثلت ذروة الصراع بين الإسلام والنصرانية، وتجسدت فيها كل عوامل قيام وسقوط الدول والجماعات، ونجاح وفشل الحركات السياسية والاجتماعية والعسكرية، واستوعبت -لطولها- كل السنن الربانية في الكون والخلق والأمم والشعوب.

 

غير أن شهرة هذه الحقبة وشيوع وكثرة الكتابات التي تناولتها لم تمنع من وجود العديد من الأحداث والمشاهد والوقائع الهامة التي لم تنل حظها من الشهرة؛ بل صارت مثل الغوامض من كل فن لا يعلمها إلا القليل، ومن هذه المشاهد التي يجب على الخطباء والدعاة تذكير الناس بها في شهر رمضان من كل عام: معركة "تل حارم" التي مثلت قمة المجد للسلطان العظيم والقائد الحكيم نور الدين محمود بن البطل الهمام ومجدد الجهاد الإسلامي ضد الوجود الصليبي بالشام عماد الدين زنكي.

 

مؤامرة الباطنية وظهور نجم البطل نور الدين:

مرت بالمسلمين في تاريخهم فترات من الضعف والفرقة والشتات، كثرت فيها الخلافات وتعدّدت فيها الرايات، وتمزقوا شر ممزق حتى طمع فيهم أعداؤهم، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن قيّض لها بين الفينة والأخرى رجالاً يذودون عن حماها ويعيدون لها هيبتها وكرامتها، ومن هؤلاء البطل المقدام عماد الدين زنكي الذي استطاع بفضل الله أن يجدد ما اندرس من معالم الجهاد الإسلامي، ويحقق نجاحات كبرى ضد الوجود الصليبي في بلاد الشام،كانت ذروتها سنة 539 هـ عندما فتح إمارة الرها وحررها من الصليبيين، ولكن ما لبثت أيادي الغدر الباطنية المتآمرة مع الصليبيين إلا أن اغتالت البطل الجسور أثناء حصاره لإحدى القلاع العاصية على حكمه بالشام  سنة 544 هـ ليتنفس الصليبيون الصعداء ويشكرون للباطنية الزنادقة صنيعهم في التخلص من أقوى خصم لهم في العالم الإسلامي.

 

وعلى هذا ينبغي للخطيب والداعية أن يبين للناس أن الباطنية والشيعة هما من ألد أعداء الأمة على مر العصور، حيث هدفهم واحد، وخططهم واحدة، وحلمهم الأبدي هو تدمير أمة الإسلام وإبادة أهل السنّة، وإخلاء الساحة أمام أعداء الأمة، وذلك بسلاح الغدر والخسة والخيانة والاغتيالات القذرة، والبطل عماد الدين لم يكن أول ولا آخر ضحية لهم، فما زال سجل إجرامهم منشوراً حتى كتابة هذه السطور، ولهم في عصر وجيل ضحايا من عيون الأمة.

 

وبعد وفاة البطل زنكي متأثراً بجراحه رفع الراية من بعده ابنه الذي لم يجد الزمان بمثله – إلا قليلاً – الملك العادل "نور الدين محمود" الملقب بالشهيد من كثرة شوقه وتمنيه للشهادة –رحمه الله– وكانت ولايته رحمة ونصراً وكرامة كبرى للأمة من ربها –جل وعلا– فقد كان نور الدين تقياً ورعاً ديناً، شجاعاً مقداماً، يحمل همّ الأمة والدين، زاهداً غير منشغل بزخارف الدينا ومتاعها الزائل، ليس له غرض فيها سوى الجهاد في سبيل وطرد الصليبيين من بلاد الشام وخاصة بيت المقدس، كما أنه كان عبقرياً تكتيكاً واستراتيجياً في القيادة السياسية والعمليات الحربية.

 

نور الدين وتوحيد مصر والشام:

كان دخول الحملات الصليبية إلى بلاد الشام في أواخر القرن الخامس الهجري حدثاً فريداً مزلزلاً للأمة بأسرها، ولكنه كان مفهوماً ومتوقعاً في ظل التراجع الحضاري والسياسي الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية؛ حيث الصراع والتشرذم قد وصل للذروة بين أبناء المسلمين في كل مكان. ولكن وجود الدولة الفاطمية الخبيثة في مصر كان من أقوى الأمور التي ساهمت في وقوع الشام في قبضة الصليبيين وساهمت في تدعيم هذا الوجود الصليبي حتى أصبح على شكل إمارات صليبية أربع في طرابلس وبيت المقدس وأنطاكية والسواحل.

 

فتلك الدولة الخبيثة كانت شراً محضاً لا خير فيها إذ كانت بمثابة السرطان الذي ينخر في جسد الأمة من الكيد والتآمر؛ لذلك حاول سلاطين السلاجقة الكبار طغرلبك ثم ابن أخيه ألب أرسلان، ثم ابنه ملكشاه، تحرير بلاد مصر والقضاء على هذه الدولة الخبيثة، ولكن كثرة الخلافات الداخلية بين أبناء ملكشاه أجلت هذا المشروع الطموح، حتى جاء السلطان العظيم "نور الدين محمود"، وأخذ في التفكير والتخطيط فعلياً لتحرير مصر والقضاء على الدولة الفاطمية حتى يتمكن من إقامة كيان سياسي متحد بين الجبهتين المصرية والشامية يكون قادراً على مواجهة الصليبيين في الشام وطردهم من المدن والسواحل الشامية.

 

جاءت الفرصة لنور الدين سنة 556 هـ عندما وقع خلاف كبير بين اثنين من كبار رجال الدولة الفاطمية في مصر وهما: ضرغام قائد الجيش، وشاور الوزير الأول، وقد وصل الخلاف بينهما للمواجهة العسكرية التي استطاع خلالها ضرغام أن ينتصر على شاور ويجبره على الفرار من مصر واللجوء إلى دمشق حيث اجتمع مع نور الدين وطلب منه المساعدة في العودة للسلطة نظير ثلث خراج مصر، وأراضي وإقطاعات في مصر، مع السماح بوجود قوات عسكرية دائمة هناك، فمكث نور الدين شهراً يصلي ويدعو ويقوم الليل ويبتهل إلى الله سائلاً إياه السداد والرشاد في الرأي حتى شرح الله صدره لقبول عرض شاور.

 

وهنا على المؤمن دائما أن يلجأ إلى ربه في شئونه كلها، ويعلم أن مفاتيح كل شيء بيد العزيز الحكيم، والمؤمن مع أخذه بالأسباب المادية لا يتجاهل أبداً حقيقة أن الأمر كله بيد الله –تعالى– ومن ثم لابد من اللجوء إليه في كل كبير وصغير، فما بالك بالمهمات الجليلة والأمور العظيمة ؟! والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يهرع إلى الصلاة كلما حزبه أمر أو نزلت به نازلة، ومشهده ليلة بدر وهو يناجي ربه ويبتهل إليه ما زالت أنواره تشع على قلوب العارفين والسالكين على دربه -صلى الله عليه وسلم-.

 

انتدب نور الدين لهذه المهمة الخطيرة صفوة جنده وخيار قادته وجعل على رأسهم فارسه الأثير المقرب: أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه النجم الساطع صلاح الدين يوسف الأيوبي، وكانت هذه الرحلة هي فاتحة السعادة لصلاح الدين وبداية شهرته ومجده. وبالفعل نجح أسد الدين في مهمته وانتصر على ضرغام وأعاد شاور للحكم.

 

الغدر في دم الفاطميين ولا يأتي من ورائهم خير قط، وهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة؛ لذا فقد نكث شاور عهوده مع نور الدين ورفض الوفاء بالشروط المتفق عليها، وطلب من جيش أسد الدين مغادرة مصر على وجه السرعة، فما كان من أسد الدين إلا أن تحرك سريعاً واحتل مدينة بلبيس في شرق مصر وتحصن بها واستعد للمواجهة.

 

ولأن بئر الغدر والخيانة لا يعرف قاعاً ولا يقف عند  منتهى، فقد سارع شاور واستنجد بالصليبيين في بيت المقدس وملكهم "عموري الأول" ودعاه لاحتلال مصر وطرد جيش أسد الدين، وكان عموي الأول يحلم باحتلال مصر ويفكر في نفس الذي يفكر فيه السلطان نور الدين، خاصة وأنه يحتل بالفعل أجزاء كبيرة من فلسطين وعسقلان ومسألة ضم مصر إلى أملاكه ستكون ضربة قاصمة للعالم الإسلامي إذ ستقوم مملكة صليبية كبيرة تضم فلسطين وسيناء ومصر كاملة، وبالتالي تصبح السواحل بأسرها تحت سيطرة الصليبيين.

 

الهزيمة الطارئة في سهل البقاع:

شعر السلطان نور الدين بحرج موقف أسد الدين ومن معه؛ إذ أنه سيصبح بين فكي كماشة، الصليبيون من الشرق، وجيش شاور من الغرب، فقرر التحرك بسرعة لمهاجمة الإمارات الصليبية في طرابلس وبيت المقدس حتى يشغل "عموري الأول" عن خططه بمهاجمة مصر، وجاء قرار تحرك نور الدين سريعاً دون أخذ العدّة كاملة، وقرر الهجوم على حصن الأكراد بسهل البقاع ويعتبر من أهم حصون الصليبيين المدافعة عن مملكة طرابلس وذلك في أواخر سنة 558 هـ.

 

ولأن الاستعجال في أمثال هذه المواقف الطارئة قد يورث انكساراً من حيث لا يحتسب المرء، فقد عسكر نور الدين قبالة الحصن بقصد الضغط والمناورة لإجبار عموري الأول على التراجع عن المسير إلى مصر، ولم يكن نور الدين يدري أن قوات بيزنطية كبيرة قريبة من الحصن جاءت بغرض حماية مواكب الحجيج الصليبي إلى بيت المقدس، هذا غير قوات عموري الأول وحلفائه من طرابلس وأنطاكية والتي كانت تحمي الحصن فلم يشعر نور الدين ومن معه إلا بالصليبيين وهم يهجمون على معسكره بمنتهى القوة، وكان لعنصر المفاجأة دوره في اضطراب الصفوف، حتى أن الصليبيين قد وصلوا إلى خيمة نور الدين نفسه الذي خرج على عجل من خيمته ولسرعته ركب فرسه وفي رجله شبحة الفرس، فعلقت بحبال الخيمة وحاول أحد الصليبيين قتله، وسرعان ما أنقذ نور الدين أحد جنوده بقطع الشبحة، ولكنه تعرض للقتل على يد الصليبي، فلم ينس نور الدين ذلك للجندي البطل ومنح أسرته وأبناءه أملاكاً وعطايا كثيرة تقديراً لشجاعته وتضحيته.

 

انسحب نور الدين إلى حمص بعد هذه الهزيمة المريرة والنادرة إذ لم يتعرض نور الدين لمثلها من قبلها، ونصب معسكره هناك، وأكرم العطاء لجنده الذين صبروا أمام موجات الهجوم الصليبي المتتالية، أما الصليبيين فإنهم كانوا عازمين على قصد حمص بعد هزمهم لنور الدين لأنها أقرب البلاد إليهم، فلما بلغهم مقام نور الدين عندها قالوا: إنه لم يفعل هذا إلا وعنده من القَّوة أن يمنعنا، ومن ثم قرروا الانصراف وعدم السير إلى حمص.

 

لذا -أيها الكرام- الصف المؤمن يحتاج من وقت إلى الآخر لجرس تنبيه وإنذار عندما يخالف السنن الكونية ويغتر بقوته أو ذكائه، ونفر من الصحابة ممن هم حديثو عهد بالإسلام وهم خير القرون التي عرفتها البشرية، ولكنهم عندما خالفوا أسباب النجاح وأعجبتهم قوتهم وكثرتهم، عاتبهم الله –عز وجل– في القرآن وأذاقهم مرارة الهزيمة والانكسار حتى تسمو نفوسهم فوق الآفات القلبية المهلكة.

 

كانت الهزيمة الطارئة في البقيعة سبباً لئن يأمن عموري الأول جانب نور الدين، ويواصل طريقه إلى مصر بعد أن اطمئن لحدود مملكة من غارات نور الدين، وكان ذلك المسير سبباً للنصر المبين في "تل حارم" كما سيأتي.

 

تل حارم ويوم الانتقام:

السلطان نور الدين لم ينل هزيمة قبل يوم البقيعة من الصليبيين، لذلك فقد تأثر بشدة، وشعر أنه له دور في هذه الهزيمة بسبب استعجاله الذي أفقده التركيز وحسن الاستعداد، لذلك قرر الانتقام سريعاً لخسائر المسلمين وتوجيه ضربة قوية للصليبيين ينقذ بها مصر وجنوده المحاصرين بها من الوقوع تحت أسر الاحتلال الصليبي.

 

عسّكر نور الدين بجنوده عند بحيرة "قدس" بالقرب من حمص وآلى على نفسه ألا ينعم بفراش حتى ينتقم لمصاب المسلمين، وقد قلّت النفقات في يديه، وكان قد خصص أموالاً من بيت المال ينفقها على العلماء والعباد والفقراء، فقال له بعض أصحابه لما رأى كثرة إنفاقه: "لو استعنت بهذه الأموال في هذا الوقت لكان أصلح، فغضب عليهم وقال: "والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلاة قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطئ ؟، وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم ".

 

وبرغم أن النفقة على الجهاد وفي سبيل الله لهي من أعظم النفقات إلا أن نور الدين يعطينا مثالاً في فقه القائد لمعنى نفقة الجهاد، فرعاية المسلمين والقيام بحوائجهم وكفالة اليتامى والأرامل والمعوزين حق على الحاكم المسلم والدولة المسلمة، ولا يصح أن تُضيع نفقة من أجل نفقة أخرى.

 

لم يكرر نور الدين نفس خطأ يوم البقيعة ويبادر بنفسه دون إعداد وتجييش للقوات الإسلامية، فلما وصلته أخبار تحرك "عموري الأول" من "عسقلان" باتجاه مصر لاحتلالها، أخذ في دعوة أمراء المسلمين في الشام للاشتراك في نجدة مصر والمحاصرين بها، فراسل أخاه الأمير قطب الدين مودود أمير الموصل، وراسل فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي أمير حصن كيفا في أعلى نهر دجلة، الذي قال لما قرأ رسالة نور الدين قولا يعتبر شهادة بالتقوى والعبادة لنور الدين قال:" لقد تحشف نور الدين من كثرة الصوم والصلاة فأصبح يرمي بنفسه في المعارك دون خوف"، وأخبر أصحابه أنه لن ينجد نور الدين وسيبقي في بلاده بعيدا.

 

وفي صبيحة اليوم التالي سمع أصحابه مناديه ينادي بالخروج للجهاد مع نور الدين فجاؤا اليه وقالو: ماعدا مما بدا تركناك على حال بالأمس نرى الآن ضدها. فقال: "إن نور الدين استعمل معي طريقا إن لم أنجده خرجت البلاد من يدي فقد أرسل الى العلماء والعباد يحثهم على الدعوة للجهاد فأصبحوا يدعون له، ويدعون علي باللعن إذا لم أشارك ". وتلقى نور الدين النجدات من هذا الأمير ومن الموصل ومن ديار بكر وغيرها من مناطق الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات.

 

اجتمعت الجيوش عند السلطان نور الدين فقرر السير نحو "حارم" - وهو حصن حصين في بلاد الشام ناحية حلب  ويقع اليوم في مدينة إدلب السورية - في شهر رمضان من سنة 559 هـ  فحاصرها ونصب المجانيق عليها، ثم تابع الزحف للقاء الفرنج الذين تجمعوا قريبا من الساحل مع أمرائهم وفرسانهم بزعامة أمير أنطاكية.

 

وفي ليلة الحادي والعشرين من رمضان سنة 559 هـ وكانت أولى الليالي الوترية من العشر الأواخر لشهر رمضان، وفي ليلة صافية من ليالي شهر أغسطس الحار، انفرد نور الدين بنفسه في زاوية من زوايا تل حارم، وأخذ في الصلاة والتهجد والدعاء والتضرع بين يدي ربه –جل وعلا- وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع وقال: "يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك –يقصد المسلمين-، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك – قصد الصليبيين-، فانصر أولياءك على أعدائك، وهو يعني أنك إن نصرتنا فدينك نصرت فلا تمنع النصر عن المسلمين بسببي، ثم قال: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً".

 

إن الأمة في أمس الحاجة إلى أمثال هؤلاء القادة الربانيين الخاضعين لربهم، المتواضعين في عظمتهم لعظيم السموات والأرضين، قادة يعرفون جيداً أسباب النصر الحقيقية، يعرفون حاجتهم دائما لقوة الله لا قوتهم، وعون الله لا عون البشر، يعرفون مصادر العزة وقانون الانتصار.

 

وأما الذي على الطرف الآخر فكان صاحب تل حارم الصليبي قد أرسل يستغيث بأمراء الممالك الصليبية في طرابلس وأنطاكية والدولة البيزنطية، فهرع الصليبيون بأعداد كبيرة لنجدة الحصن الاستراتيجي الهام، وعلى الرغم من الخلاف الكبير بين الفرنج والبيزنطيين إلا إنهم اتحدوا ونبذوا خلافاتهم لمواجهة نور الدين، فأتى ريموند الثالث أمير طرابلس وبوهيموند الثالث أمير أنطاكية، وجوسيلين الثالث لفك الحصار عن المدينة. وقد انضموا إلى كونستنتين كالامانوس حاكم قلقيلية البيزنطي، وكذلك توروس ملك أرمينيا وهيو الثالث وغيرهم من الأمراء الصليبيون وكان الجيش الصليبي المتحد أشبه بحملة صليبية جديدة، إذ بلغ قرابة الأربعين ألفاً.

 

وفي يوم 22 رمضان 559 هـ / 12 أغسطس 1164 م تقدمت الجيوش الصليبية مزهوة بكثرتها وذكريات الانتصار اليتيم على نور الدين بالبقيعة، فلم تلفت لقواعد الاشتباك والاستعداد الجيد للقتال وتوزعوا بشكل متهور، فانسحب المسلمون من مدينة حارم واشتبكوا معهم بالقرب من ارتاح، ووقع صدام مروع حيث طبق المسلمون خطة عسكرية ذكية وضعها نور الدين ومن معه، وهي التظاهر بالانسحاب، فقد هجم الفرنج في البداية على ميمنة الجيش الإسلامي حتى تراجعت الميمنة وبدا وكأنها انهزمت، وكانت تلك خطة من قبل المسلمين لكي يلحق فرسان الفرنج فلول الميمنة، ومن ثم تنقطع الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم، فيتفرغ المسلمون للقضاء على المشاة، فإذا رجع الفرسان لم يجدوا أحداً من المشاة الذي كانوا يحمون ظهورهم. فحدث ما خطط له؛ حيث وقع الصليبيون في الكمين، مما أتاح للمسلمين أن يطبقوا على فلول المشاة ولم ينج من القتل إلا من وقع في الأسر. والوحيد الذي ينجر وراء الكمين كان توروس الأرمني الذي فضل الهروب من الكارثة والسلامة بنفسه. وكان ممن وقع في الأسر بوهيموند أمير انطاكية وريموند كونت طرابلس وقسطنطين البيزنطي وهيو الثالث، حيث جرى ربطهم بالحبال سويا ونقلهم إلى حلب، وقتل من الصليبيين حوالي عشرة آلاف شخص.

 

وعندها غنم المسلمون بقيادة نور الدين كل ما كان مع العدو من أسلحة ومؤن واستغل نور الدين النصر الكبير على الحلف الصليبي، وعلى الفور وسار بقواته الى الجولان واسترد عاصمتها بانياس بعد نصر حارم بأيام، وتعتبر بانياس مفتاح القدس.

 

ولما سمع عموري ملك بيت المقدس بهزيمة قومه أمام نور الدين اتصل بشيركوه داخل بلبيس واتفق معه على فك الحصار عنه على أن ينسحب الجانبان عن مصر وعاد عموري إلى الشام لترميم ما أصاب الصليبيين من دمار وافتداء الاسرى الذين وقعوا في أسر نور الدين. وصار العرب والمسلمون يتندرون على صنيع عموري الأول الذي خرج لاحتلال مصر فعاد بخفي حنين وضاعت معظم أملاكه وخزائنه، وقالوا عنه: عموري مثل النعامة خرجت تطلب قرنين، فعادت بلا أذنين.

 

ولم يطلق نور الدين الأمراء الصليبيين وحلفائهم إلا مقابل فدية ضخمة بلغت 600 ألف دينار ذهب. وكان نور الدين قد أبطل الضرائب التي تبلغ مليون درهم وكان ذلك الإبطال قبل معركة حارم بسنوات وذلك خوفا من الله وورعا فعوضه الله – تعالى - بأضعاف تلك الضرائب الملغاة بهذا المبلغ الكبير، وصدق الله العظيم حينما قال في مثل ذلك؛ (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التوبة: 28].

 

كان يوم "حارم" فتحاً عظيماً لا يقل روعة عن الانتصارات الكبرى في حقبة الحروب الصليبية إذ تم إنقاذ بلاد مصر من الوقوع بيد الصليبيين، ومهدت السبيل نحو التخلص نهائياً من الدولة الفاطمية الخبيثة، بعد أن دخلها المسلمون وخبروها جيداً وعرفوا السبيل الأمثل نحو فتحها وتخليص أهلها من نير الفاطميين، وهو ما تم بالفعل عقب انتصار حارم بأربع سنوات فقط.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات