محنة الإمام النسائي: عدوان الجهل والتعصب

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات في 13 صفر سنة 303هـ، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم..

 

 

 

لا يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم شفاؤها، لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب، ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك، وعلى رأس هؤلاء العلماء الذين راحوا ضحية الجهل والجهلاء الإمام (النسائي) صاحب السنن -رحمه الله.

 

ترجمة الإمام النسائي:

هو الإمام الحافظ الحجة الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، وبحر العلوم، وواحد من كبار علماء الأمة، وصاحب السنن المشهورة، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر النسائي، ولد سنة 215هـ بمدينة نسا من أعمال خراسان - بين إيران وأفغانستان الآن - طلب العلم صغيرًا وقد ملك حب الحديث وطلبه والرحلة إليه مجامع فؤاده، فارتحل لطلب الحديث سنة 230هـ أي وهو في الخامسة عشر، فرحل أولاً إلى المحدث الشهير (قتيبة بن سعيد) ومكث عنده عامًا كاملاً، سمع خلاله مروياته كلها، ثم انطلق بعدها يجول في طلب العلم والحديث في خراسان والحجاز ومصر والعراق والجزيرة والشام والثغور، ثم استوطن مصر، وصارت الرحلة إليه، وإليه ضربت أكباد الإبل، وارتحل إليه الحفاظ، ولم يبق له نظير في هذا الشأن.

 

 أما عن شيوخه وتلاميذه، فقد سمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع، وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: "سمع من خلائق لا يحصون".

 

وحدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النحوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبد الرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير.

 

أما عن صفاته الخلقية، فقد قال الذهبي: كان شيخنا مهيباً، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة، وكان نضر الوجه مع كبر السن، كأن في وجهه قنديل، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع زوجات، فكان يقسم لهن، ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد ويكثر من تلاوة القرآن مع عذوبة معلومة في صوته شهد لها الجميع.

 

أما عن عقيدته (وهي مربط الفرس في محنته والسبب الرئيسي لمصرعه): قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه: 14] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

 

وأما ما رمي به من التشيع والانحراف عن المتعصبين جهلاً لمعاوية ضد علي -رضي الله عنهما-، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي -رضي الله عنه-، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك: قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: (الخصائص) لعلي -رضي الله عنه-، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: (الخصائص)، رجوت أن يهديهم الله –تعالى-. وبالنسبة لمذهبه الفقهي فقد قال ابن الأثير في أول (جامع الأصول): كان شافعياً، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعاً متحرياً.

 

مكانته العلمية وثناؤهم عليه: 

يحتل النسائي مكانة سامقة في ثبت علماء الأمة، فهو يقف في مصاف كبار علماء الأمة، وإمامًا من أكبر أئمة الحديث، حتى إن السيوطي -رحمه الله- قد قال عنه: (النسائي مجدد المائة الثالثة). وثناء الناس عليه وإقرارهم بإمامته وريادته مذكور في كل كتب التراجم التي ترجمت كحياة هذا الإمام الكبير وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:

قال الحافظ أبو علي النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة"، وقال الإمام الدار قطني: "أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره"، وقال محمد بن المظفر الحافظ: "سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر، فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه"، وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه: "رضيت بالنسائي حجة بيني وبين الله –تعالى-"، وقال أبو سعيد بن يونس: "كان أبو عبد الرحمن النسائي إمامًا حافظًا ثبتًا"، وقال الإمام الذهبي: "كان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، وقال أيضاً: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة"، وقال الإمام الطحاوي: "أبو عبد الرحمن النسائي إمام من أئمة المسلمين"، وقال مأمون المصري المحدث: "خرجنا إلى طرسوس مع النسائي، فاجتمع جماعة من الأئمة: عبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن إبراهيم، وأبو الآذان، وأبو بكر الأنماطي، فتشاوروا: من ينتقي لهم على الشيوخ؟ فأجمعوا على أبي عبد الرحمن النسائي، وكتبوا كلهم بانتخابه"، وقال ابن الأثير في مقدمة كتابه (جامع الأصول): "النسائي من أئمة الحديث والفقه الشافعي، له مناسك على مذهبه، وكان ورعًا متحريًا، شديد التحري والضبط لرواياته حتى إنه قد أتى أحد رواة الحديث المشهورين وهو (الحارث بن مسكين) وكان الحارث خائفًا من أمور تتعلق بالسلطان، فخاف من النسائي أن يكون عينًا عليه، فمنعه من دخول بيته، فكان النسائي يجيء فيقعد خلف الباب ويسمع، وكان بعدها إذا روى الحديث عن الحارث لا يقول: حدثنا حارث، إنما يقال: قال الحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، من شدة تحريه وصدقه وضبطه لألفاظ الرواية".

 

نقل الذهبي عن الحافظ بن طاهر أنه سأل سعد بن الزنجاني عن رجل فوثقه، فلما ذكر له أن النسائي قد ضعفه قال: "يا بنيّ إن لأبي عبد الرحمن شروطاً في الرجال، أشد من شروط البخاري ومسلم". ويصادق الذهبي على كلام ابن طاهر فيقول:" قلت: صدق، فإنه قد ليَّنَ (أي ضعّف) جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم". لقد كان هذا الإمام علماً في الحديث، حتى لم يكن أحد في زمانه.

 

محنة الإمام النسائي: 

 الإمام النسائي من كبار علماء الحديث في الإسلام، ومن دأب علماء الحديث الارتحال من بلد لآخر من أجل سماع الحديث وإسماعه، ونشر العلم بين المسلمين، وهذا هو حال العلماء الصالحين المصلحين الذين يحرصون على نشر العلم وبذر بذوره الطيبة في كل مكان؛ ليستفيد أكبر قدر من المسلمين.

 

طاف النسائي معظم أقاليم الإسلام، واستقر في مصر فترة طويلة، ارتفع بها شأنه وعلا ذكره، وأقبل عليه طلبة العلم والمحدثون وعموم الناس لسماع مجالسه، وهذا الأمر مجلبة للحسد والغيرة عند ذوي النفوس المريضة. بدأت محنة النسائي عندما بلغ أعلى المكانات العلمية في عصره وصارت الرحلة إليه وعيَّنه أمير مصر قاضيًا على عموم البلاد، وخرج معه للجهاد والفداء، وعندها حسده الأقران، وظهر ذلك منهم في قسمات وجوههم وفلتات ألسنتهم، وهذا الحسد أزعج النسائي وضاقت به نفسه حتى عزم على الخروج من البلد كلها، قال الإمام الدارقطني: "كان النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعرفهم بالصحيح من السقيم من الآثار، وأعرفهم بالرجال، فلما بلغ هذا المبلغ، حسدوه، فخرج إلى الرملة بفلسطين وذلك في أواخر سنة 302هـ.

 

خرج النسائي إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، ورد ما غالى من أهلها على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفي باقي الصحابة، وكانت بلاد الشام معقل الأسرة الأموية وقاعدة ملك بني أمية ودمشق ظلت عاصمة الخلافة الأموية وعاصمة الدولة الإسلامية، طوال حكم الأمويين، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية -رضي الله عنه-، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة وكان كما قلنا ضابطًا متقنًا شديد التحري لألفاظه ورواياته للأحاديث، فألحوا عليه أكثر وشتموه، فرد عليهم بكلام شديد أحفظهم، إذ قال لهم:" أي شيء أخرج؟ حديث اللهم: لا تشبع بطنه"، وهو حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وكذلك أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، ولكن ليس للنسائي سند في مروياته ليخرجه به ويحدثه للناس.

 

ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فقد اعتبر الجهلة والمتعصبة لبني أمية أن النسائي شيعياً رافضياً، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات في 13 صفر سنة 303هـ، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم.

 

هل كان الإمام النسائي شيعياً؟

من خلال البحث والدراسة لحياة المحدث النسائي وتراثه العلمي ومؤلفاته ومشايخه، لا يستطيع الباحث أن يقف عن أي دليل يقود إلى شبهة اتهام الإمام العظيم بالتشيع.

فمشايخه الذين تلقى عنهم العلم والحديث، أو الذين اتصل بهم من غير أساتذته من زملائه وأقرانه ليس فيهم من عرف بالتشيع أو كان شيعياً، حتى يظهر أثره في نفس النسائي بوضوح، كما أنه شافعي المذهب كما جاءت به النصوص التاريخية، وذكره تاج الدين السبكي في الطبقة الثالثة من طبقات الشافعية الكبرى وسبقه إلى هذا غيره من المؤرخين دون استثناء.

 

علماء الشيعة لهم موقف معروف من مرويات الصحابة -رضوان الله عليهم-، فهم يرفضونها جملةً وتفصيلاً، ولا يعتدون إلا بمرويات آل البيت من وجهة نظرهم فلا يوجد عالم حديث شيعي بالمعنى الاصطلاحي عند أهل السنّة. وكتب النسائي ومؤلفاته كلها مروية عن الصحابة جميعاً دون استثناء بمن فيهم معاوية -رضي الله عنه-، فكيف يقبل القول فيه بالتشيع حتى يتهم به، بل ويقتل بها.

 

موقف الإمام النسائي من معاوية -رضي الله عنه- غير ما هو ما يعتقده كثير من الجهلة والمتعصبة، فهو يحترم الصحابة جميعاً بمن فيهم معاوية، ففي "تاريخ ابن عساكر" لما سئل عن معاوية، قال: "الإسلام كدار لها باب فباب الإسلام الصحابة فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد الدخول، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة".

 

 لماذا وصف بعض مؤرخي الإسلام النسائي بالتشيع؟

ورد وصف النسائي بالتشيع اليسير في عدد من كتب التاريخ والسير والتراجم منها:

قال ابن كثير: قيل عنه: "إنه كان ينسب إليه شيء من التشيع"، وقال الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه"، وقال ابن خلكان: "إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عمره، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس، حتى يفضل وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك. وكان يتشيع"، وقال ابن تيمية: "وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما".

 

مناقشة هذه الدعوى:

قول ابن كثير عنه:" إنه كان ينسب إليه شئ من التشيع"، عبارة تشير الى تضعيف التهمة أو عدم ثبوتها لأن كلمة (قيل) من كلمات التضعيف أو عدم ثبوت الخبر وعبارة (شيء من التشيع) عبارة تفيد التقليل وليس المذهب أو الالتزام بمذهب الشيعة. وربما كان الشيء اليسير من التشيع هو موقف سياسي في تلك الفترة التي سيطر فيها أنصار معاوية -رضي الله عنه- على مقاليد السلطة فكانت التهمة بالتشيع تطلق لتصنيف المعارضين حتى ولو لم يلتزم بمنهج الشيعة.

 

قول الإمام الذهبي: "إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه". الإمام الذهبي في تراجمه يذكر عبارة (فيه قليل تشيع) كثيراً عندما يترجم لكثير من العلماء في تلك الفترة والتي كانت قمة الصراع بين الطائفتين، وهي عبارة لا تضفي على من أطلقت عليه، قصة التشيع بمعناها المذهبي وإليك بعضاً من كبار العلماء السنة الذين أطلق عليهم الذهبي هذه العبارة:

 

ترجم للحاكم أبي عبد الله النيسابوري وجاء في ترجمته (وكان فيه تشيُّع وحطّ على معاوية. وهو ثقة حجة. توفي في صفر". وترجم لطاووس ابن كيسان فقال في ترجمته: "قلت: إن كان فيه تشيع، فهو يسير لا يضر إن شاء الله "، وترجم منصور بن المعتمر من ثقات التابعين فقال: "تشيع قليل وكان قد عمش من البكاء. قلت: تشيعه حب وولاء فقط."، وترجم لشيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين سفيان الثوري فقال: "من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير".

 

وغيرهم الكثير من كبار العلماء الذين أطلق الذهبي عليهم هذه العبارة، ومع أخذنا بالاعتبار إنصاف وعدل الذهبي في ترجمته نأخذ العبارة على (الحب والولاء فقط) وليس للمذهب الشيعي. ومما يؤكد ما ذهبت إليه عبارة ابن تيمية المذكورة أعلاه حيث قال:" وتشيع بعض أهل العلم بالحديث، كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ الى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، ولا يعرف في أهل الحديث من يقدمه عليهما". وعبارة ابن تيمية مستند براءة لنفي التشيع بمعناه المذهبي عن النسائي.

 

الفرق بين التشيع والرفض:

التشيع بمعناه المعروف عند سلف الأمة ليس مرادفاً للرفض، فالتشيع وجد عند بعض علماء السلف وأئمتهم، والتشيع عندهم كان على معنيين: الأول: غض الطرف عن ذكر معاوية -رضي الله عنه- بالكلية لا سلباً ولا إيجاباً، ومنهم النسائي وابن عبد البر والحاكم وغيرهم. والثاني: تقديم علي على عثمان -رضي الله عنهما-، مثل الثوري ووكيع وعبد الرازق وكثير من علماء الكوفة واليمن، وليس أحد منهم قاطبة يفضل علياً على أبي بكر وعمر -رضي الله عن الجميع-.

 

أما الرفض فكله ذم وشر وبدع وزندقة وانحلال وخروج عن الإسلام، بل يكاد أن يكون ديناً مستقلاً تماماً، ولا يوجد أحد من علماء الإسلام ينسب إلى الرفض.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات