قراءة في تاريخ مخططات التآمر: رسائل البطريرك جريجوريوس نموذجاً

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

إن ما يوجبه الإسلام من مبدأ الولاء والبراء يمنع من الانجرار وراء الأعداء، وما تسلط الكفار على المسلمين وتدخلوا في شؤونهم إلا نتيجة إخلالهم بهذا الأصل العظيم، مما يحقق حماية سياسية شاملة للأمة الإسلامية، ولذلك كان استهداف هذه العقيدة من أهم بنود مخطط التآمر على العالم الإسلامي.

 

 

 

الصراع بين الحق والباطل سنة كونية أزلية، والعداوة بينهما مستمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فما إن يظهر نور الحق والخير في مكان، حتى تشرئب إليه أعناق الباطل والضلال محاولة إطفاء نوره وطمس آثاره. هذا الصراع بدأ منذ نشأة الجنس الإنساني، منذ أن خلق الله - تبارك وتعالى- آدم -عليه السلام-، وقام الشيطان بمعاداته، وكان الصراع بين الحق وبين الباطل، وأهبطوا إلى الأرض.

 

ومن هناك استؤنفت العداوة من جديد، وظهر منهجان متعارضان: حق وباطل، نور وظلام، فحيثما فقد النور وجد الظلام، وكلما اشتد النور وقوي كلما ضعف الظلام أو اضمحل، ولابد أن يظهر أحدهما، ولا يمكن أن توجد حالة لا نور فيها ولا ظلام! أو لا حق فيها ولا باطل! ولا يمكن أن يوجد قلب بشري إلا وهو إما على حق وإما على باطل، ولا توجد أمة من الأمم إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل، ولا توجد عقيدة من العقائد إلا وهي إما على الحق وإما على الباطل وهكذا إلى الأبد. فهي عداوة أزلية كونية جعلها الله -تبارك وتعالى-. وهي أيضاً مستمرة أبدية بين الحق وبين الباطل، وكلما قويت شوكة الحق؛ كلما كانت عداوة أهل الباطل أكثر، وتعاونهم أعظم لإبادته.

 

تاريخ الرسائل والوصايا:

يعتبر الملك الفرنسي لويس التاسع المهزوم في الحملة الصليبية على المنصورة سنة 648 هـ، واضع اللبنات الأولى في الفكر الاستراتيجي للحرب على الإسلام والعالم الإسلامي. وقع ملك فرنسا لويس التاسع في أسر المسلمين، وفرت جيوشه لا تلوي على شيء، وقد وقع الآلاف منهم بين جريح وقتيل وأسير. وانتهت معركة المنصورة الخالدة بهزيمة ماحقة بالصليبيين جعلتهم لا يفكرون ثانية بغزو بلاد المسلمين لقرون. وأُطلق سراح لويس التاسع بعد أن قدم فدية كبيرة للمسلمين، فكان أول عمل قام به بعد تحريره من الأسر أن ابتاع مئات المخطوطات الثمينة والنادرة وحملها إلى سفينته على 14بغلاً. وبعد وصوله سالماً إلى فرنسا توجه إلى أتباعه بالوصية التاريخية. قال المؤرخ النصراني (جوانفيل) الذي رافق لويس: إن خلوة لويس في معتقله بالمنصورة أتاحت له فرصة هادئة؛ ليفكر بعمق في السياسة التي كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء المسلمين، وقد انتهى تفكيره إلى عدة أمور:

 

1-أن النعرة الدينية في الغرب لم تعد كافية لإثارة الحروب ضد الإسلام والتغلب على المسلمين، فالحروب الصليبية أنهكت قوى الغرب البشرية والمالية، ثم إن قوى الصليبين في الشرق أخذت في الاضمحلال والانهيار ومات في قلب الصليبي ذلك الحافز الروحي الذي كان يحفزه على خوض الحروب التي لا مطمع له فيها غير نصرة المسيحية وارتفاع الصليب.

 

2–فساد كرسي البابويه، عندما أشار لويس إلى موقف مندوب البابا وحرصه الدائم على فوز الكنيسة بأكبر نصيب من غنائم الحروب الصليبية.

3 –ثم طرح تساؤلاً: هل في وسع المسيحية أن تواصل وحدها الاضطلاع بمحاربة الإسلام؟ وكان جوابه: أنه لم يعد في وسع الكنيسة أو فرنسا وحدها مواجهة الإسلام وإن هذا العبء لا بد أن تقوم به أوروبا كلها لتضييق الخناق على الإسلام، وتقضي عليه فيتم لها التخلص من هذا الحائل الذي يحول دون تملكها لآسيا وأفريقيا.

 

ومن هنا وضع لويس التاسع خيوط المؤامرة الجديدة على الإسلام والتي تقوم على الأسس التالية:

أولاً: تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات صليبية سلمية تستهدف ذات الغرض، لا فرق بين الحملتين إلا من حيث نوع السلاح الذي يستخدم في المعركة.

 

ثانياً: تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين جنوداً للغرب.

ثالثاً: العمل على استخدام مسيحيي الشرق في تنفيذ سياسة الغرب.

رابعاً: العمل على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق الإسلامي يتخذها الغرب نقطة ارتكاز لقواته الحربية ولدعوته السياسية والدينية، وقد اقترح لويس لهذه القاعدة الأماكن الساحلية في لبنان وفلسطين.

 

خامساً: فصل المسلمين عن مصدر قوتهم الحقيقي والمتمثل في عقيدتهم الراسخة، خاصة عقيدة الولاء والبراء، والتي وقفت كسد منيع أمام محاولات الاختراق الفكري المتكررة عبر العصور.

 

رسائل البطريرك جريجوريوس إلى العالم الصليبي:

لقد كانت أوروبا حريصةً كل الحرص على تمزيق الدولة العثمانية المسلمة وذلك بإثارة القلاقل والاضطرابات في الولايات العثمانية في أوروبا، خاصة في اليونان التي كانت من قبل عقر دار الصليبية العالمية، ثم أصبحت ولاية عثمانية إسلامية تقام فيها الصلوات وشعائر الإسلام وذلك لعشرات السنين.

 

كان سكان اليونان من النصارى الأرثوذكس نفس مذهب نصارى روسيا، وقطعًا لذريعة التدخل الروسي في الشئون الداخلية لليونانيين بحجة حماية المذهب الأرثوذكسي، قامت الدولة العثمانية بتعيين (بطريرك أرثوذكسي) خاص بهم يتولى الزعامة الدينية للنصارى اليونانيين، وظلت ذلك الوضع قائمًا مستقرًا سنوات طويلة، وهذا البطريرك يتمتع بمزايا وإقطاعات وسلطات كبيرة، وظلت الأوضاع هادئة مستقرة، حتى ظهرت شخصية خطيرة تولت منصب البطريرك هو (جريجوريوس).

 

كان جريجوريوس شديد الحماس والثورية والكره للإسلام والمسلمين عمومًا والعثمانيين خصوصًا جعل كل همه عندما تولى منصب البطريرك على إثارة شعب اليونان من أجل الاستقلال عن الدولة العثمانية ومن أجل ذلك قام بالخطوات الآتية:

1-تأسيس جمعية سرية اسمها (الفكرة العظمى) من أجل استقلال اليونان.

 

2-إنشاء فروع كثيرة لهذه الجمعية السرية في كل مكان في الدولة العثمانية.

 

3-تأسيس شركات تجارية ودعوة أغنياء اليونان للاشتراك في الثورة وذلك لتأمين تمويل الثورة.

 

4-مكاتبة الدول الأوروبية، خاصةً روسيا من أجل مساعدتهم للثوار، ولجريجوريوس رسالة مشهورة أرسلها إلى قيصر روسيا (نيقولا الثاني) يضع فيها عصارة فكره وخلاصة تجربته في معاشرة المسلمين والاحتكاك بهم لسنوات طويلة، والهدف منها التوصل لأفضل سبل كيفية القضاء على الدولة العثمانية، وذلك سنة 1820م

وهاكم نص الرسالة: "من المستحيل سحق وتدمير الأتراك العثمانيين بالمواجهة العسكرية؛ لأن الأتراك العثمانيين ثوريون جدًا ومقاومون وواثقون من أنفسهم وهم أصحاب عزة نفس واضحة، وهذه الخصال التي يتمتعون بها إنما تنبع من ارتباطهم ببعضهم ورضائهم بالقدر وتشبعهم بهذه العقيدة، وأيضًا من قوة تاريخهم وطاعتهم لسلطانهم. الأتراك العثمانيون أذكياء وهم مجدون مجتهدون متجاوبون مع رؤسائهم مما يجعلهم قوة هائلة تخشى منها، وإن كل مزايا الأتراك العثمانيين هذه بل وبطولاتهم وشجاعتهم إنما تأتي من قوة تمسكهم بدينهم وارتباطهم بأعرافهم وتقاليدهم وصلابة أخلاقهم؛ ولذا فإن السبيل لهدم هذه القوة يكون كما يلي:

أولاً: لابد من كسر شعور الطاعة عندهم تجاه سلطانهم وقادتهم وتحطيم روحهم المعنوية، وروابطهم الدينية، وأقصر طريق لتنفيذ هذا تعويدهم للتعايش مع أفكار وسلوكيات غريبة لا تتواءم مع تراثهم الديني.

 

ثانيًا: لابد من إغراء العثمانيين لقبول المساعدات الخارجية التي يرفضونها من إحساسهم بعزتهم وتعويدهم عليها حتى لو أدى ذلك إلى إعطائهم قوة ظاهرة لمدة محدودة.

 

ثالثًا: لابد من إعلاء أهمية وقيمة الأمور المادية في تصوراتهم وأذهانهم وإفسادهم بالإغراءات المادية؛ فإنه ليس بالحرب فقط تهدم الدولة؛ بل العكس هو الصحيح؛ لأننا إذا اتبعنا طريق الحرب وحده لتصفية الدولة العثمانية سيكون هذا سببًا في سرعة إيقاظهم ووصولهم لمعرفة حقيقة ما يخطط ويبيت لهم في الخفاء. وإن ما يجب علينا عمله هو إكمال هذه التخريبات في بنيتهم الذاتية والاجتماعية ومكانتهم الدولية دون أن يشعروا بذلك). انتهت الرسالة ولم تنتهي المؤامرة.

 

عندما نتفحص هذه الرسالة جيداً ونعيد قراءتها من منظور جديد يتماشى مع طبيعة التحديات التي تواجه الأمة اليوم، نجد أن هذه الرسالة بمثابة الدستور الذي يمشي على خطاه أعداء الأمة، ولا يقل خطرها وأثرها عن بروتكولات حكماء صهيون الشهيرة والتي ربما تكون قد كتبت متأثرة برسائل (جريجوريوس)، خاصة وأن معظم من اشترك في كتابة البروتكولات هم من يهود روسيا وأوكرانيا ومن الجائز جداً أن يكونوا قد اطلعوا على رسائل (جريجوريوس) تلك، والمعروف تاريخياً أن البروتكولات كتبت سنة 1897هـ في أعقاب مؤتمر (بازل) الشهير بسويسرا.

أهم معالم المخطط العالمي ضد المسلمين، من خلال قراءة هذه الرسائل:

أولاً: استهداف الرابطة الدينية الأم - العقيدة ممثلة في الولاء والبراء تماماً مثلما أوصى (لويس التاسع) من قبل. فأعداء الأمة يعلمون الأثر الكبير لهذه العقيدة في الحفاظ على قوام الأمة ووحدتها وثباتها وتجانسها وانسجامها. وتنبع أهمية هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة من كونها فريضة ربانية، ومن كونها كذلك سياج الحماية لهوية الأمة الثقافية والسياسية، ولا أدلَّ على أهمية هذه العقيدة من اعتناء القرآن بتقريرها، فمرة يذكرها على اعتبار أنها الرابطة الإيمانية التي تجمع المؤمنين فتحثهم على فعل الصالحات، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71]، ومرة يذكرها محذراً من الانسياق وراء تحالفات تضع المسلم جنباً لجنب مع الكافر في معاداة إخوانه المسلمين، قال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران:28] ، ومرة يذكر عقيدة الولاء والبراء على أنها الصبغة التي تصبغ المؤمنين ولا يمكن أن يتصفوا بما يناقضها، قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة :22]. إلى غير ذلك من الآيات. وفي بيان أهمية هذه العقيدة يقول العلامة أبو الوفاء بن عقيل: " إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن (الراوندي والمعري) - عليهما لعائن الله - ينظمون وينثرون كفراً، وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب".

 

إن ما يوجبه الإسلام من مبدأ الولاء والبراء يمنع من الانجرار وراء الأعداء، وما تسلط الكفار على المسلمين وتدخلوا في شؤونهم إلا نتيجة إخلالهم بهذا الأصل العظيم، مما يحقق حماية سياسية شاملة للأمة الإسلامية، ولذلك كان استهداف هذه العقيدة من أهم بنود مخطط التآمر على العالم الإسلامي.

 

ثانياً: التحطيم الاقتصادي للعالم الإسلامي:

وذلك بإفقاره وإغراقه في الديون والاقتراض الخارجي وإنهاك اقتصاداته بعوائد هذه الديون وآثارها المستقبلية، ومعظم البلاد الإسلامية التي وقعت فريسة الاحتلال الأوروبي تم التمهيد لهذا الاحتلال عن طريق الإغراق في الديون. فالمدين يفقد حريته وتكسر هيبته وتزول كرامته، ويسقط من عيون أعدائه، فالدول المديونة دول أسيرة وشعوبها كسيرة، لا تملك خيارها، ولا تتحكم في قرارها.

 

لقد كانت الثروة في الشرق، وكان التقدم العلمي في الشرق، وكان الأوربيون يعانون من شظف العيش فانطلقوا من بلادهم إلى بلادنا رافعين ألوية الحرب والقتال لأسباب مادية غلفوها بأمور عقدية، فلقد انبهروا بهذه الحضارات فحاولوا الاستفادة منها، فانطلقت جيوش إنجلترا لنهب أموال الشرقيين من الصين وحتى الشرق الأوسط وانطلقت معها جيوش فرنسا وإيطاليا وغيرها لامتصاص خيرات المسلمين. وحينما جاء الصليبيون إلى العالم الإسلامي لإطفاء نور الإسلام، أعجبوا بالتقدم الحضاري الذي وجدوه عند المسلمين، بل إنهم أثاروا بالفعل شهية الأوروبيين للبضائع الشرقية الفاخرة، مما جعلهم يتجهون إلى استعمار بلدان العالم الإسلامي ونهب خيراته. وسرقة ثرواته الطبيعية من الذهب والمعادن والبترول التي راح ينقلها إلى أوربا كمواد خام، ثم يسوق الأيدي العاملة من أبناء أفريقيا السوداء، ثم يرد المواد الخام بعد تصنيعها لكي يشتريها أبناء العالم الإسلامي مرة ثانية وبهذا الأسلوب الماكر تحولت الثروة تلقائياً إلى جيوب أبناء الغرب وافتقرت دول العالم الإسلامي إلى هذا الحد الذي جعلها من دول العالم الثالث.

 

وأهم أهداف أعداء الأمة من إغراقها في الديون:

1 -استنفاذ ما تبقى من موارد العالم الإسلامي والقضاء على اقتصاده؛ لأن هذه القروض تمثل الوحش الكاسر الذي يمسك برقبة فريسته ولا يتركها إلا حطاماً. يقول اليهود في البروتكولات، وهم الذين يسيطرون على اقتصاد العالم الآن: "ويكفي للتدليل على فراغ عقول الأميين المطلقة البهيمية حقاً، أنهم حينما اقترضوا المال منا بفائدة خابوا في إدراك أن كل مبلغ مقترض هكذا مضافاً إليه فائدة لا مفر من أن يخرج من موارد البلاد، وكان أيسر لهم لو أنهم أخذوا المال من شعبهم مباشرة دون حاجة إلى دفع فائدة، وهذا يبرهن على عبقريتنا، وعلى حقيقة أننا الشعب الذي اختاره الله، إنه من الحنكة والدراية أننا نعرض مسألة القروض على الأميين في ضوء يظنون معه أنهم وجدوا فيها الربح أيضاً". وبهذا الأسلوب الماكر الذي وضعه اليهود تفلس الدولة وينتهي اقتصادها نهائياً؛ لأنه كلما حل ميعاد سداد القرض وجدت الحكومة نفسها مضطرة إلى قرض جديد بفوائد جديدة، وهكذا تقع الدولة في دوامة يهودية لا تنتهي إلا بانتهاء الدولة نفسها وإثارة القلاقل الداخلية.

 

2-استمرار تبعية العالم الإسلامي وخضوعه للغرب الرأسمالي والسيطرة الصهيونية. إن معظم هذه القروض التي تهدف في الظاهر إلى مساعدة بلدان العالم الإسلامي إنما تخفي وراءها أهدافاً سياسية وعقدية. فلقد قال الرئيس الأمريكي (كيندي) 1961 "إن المساعدات الخارجية هي أسلوب تحافظ به الولايات المتحدة الأمريكية على النفوذ والسيطرة في العالم أجمع". أما الرئيس الأمريكي (نيكسون) فقد قال في سنة 1968 "دعونا نتذكر أن الهدف الأساسي للمساعدات الأمريكية ليس هو مساعدة الأمم الأخرى، بل مساعدة أنفسنا".

 

هذا على المستوى السياسي، أما على المستوى العقائدي فيكفي أن نعرف أن معظم القروض والديون الخارجية تعطى مشروطة بإطلاق الحريات الدينية وهو لفظ براق خادع يراد به التسويق لدخول المنصرين، والسماح لهم بالدعوة إلى النصرانية في بلاد الإسلام بكل حرية، وكذا السماح لحملة الأفكار والمذاهب الهدامة في الإسلام أيضاً بالعمل بحرية مثل: (القاديانية، والبهائية، والليبرالية، والماسونية)، وهكذا.

 

3-خطورة المساس بسيادة الدول؛ لأنه ما دام القرار الاقتصادي بيد الدول المقرضة فإن القرار السياسي سوف يكون تابعاً له. وبذلك يضيع استقلال الدول المدينة وتخضع للهيمنة الاستعمارية من جديد، حيث تفرض عليها نظم وتعليمات، وتضطر إلى تنفيذها حتى ولو كانت مخالفة لعقائد الأمم وتراثها وعليها أن تنفذ وإلا فالموت جوعاً، والفضيحة العالمية حيث يعلن البنك الدولي إفلاس الدولة وهو إعلان يساوي موت الدولة وشعبها حيث تمتنع جميع الدول عن التعامل معها.

 

ثالثاً: إغراق المسلمين في الشهوات والماديات:

ورد ذكر الترف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع كلها في موضع الذم له والتحذير منه، كما ورد العديد من الأحاديث النبوية التي ينهى بعضها عن الترف جملة وتحذر من تعلُّق القلب به، وغلو الإنسان في الانغماس في متع الحياة وملذاتها، وبعضها الآخر ينهى عن مظهر من مظاهر الترف، ويحث على تركه والانصراف عنه إلى ما هو خير في الدارين.

 

والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة، فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات، يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم.

 

والأمة التي تركن إلى الدعة والترف واللهو، وهي غالبة قاهرة لا تعد مستحقة للريادة والقيادة، وسرعان ما تسلب منها ريادتها، فما بالك بأمة غارقة في اللهو والدعة والترف، وهي لا تدري إن عدوها قد كسر حصنها واجتاحها!!  لهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم. قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)[الإسراء:16]. قال سيد قطب -رحمه الله- في تفسير الآية: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم، عاثوا في الأرض فساداً ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوي صفحتها. والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة، أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تُدافعْهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله عليها هؤلاء المترفين ففسقوا فيها فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت فحقت عليها سنة الله وأصابها الدمار والهلاك.

 

ولا يوجد أدل مثالاً على عاقبة الترف والانغماس في الشهوات والماديات من زهرة مدائن الإسلام (الأندلس).

يقول المؤرخ النصراني (كوندي): "العرب هُزموا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح، والاسترسال بالشهوات". هذا الكلام في معرض كلامه عن سقوط الأندلس بيد الأسبان بعد ثماني قرون من قيام دولة الإسلام بالأندلس. فقد دخل المسلمون الأندلس وأصبحوا ساداتها، وبقوا فيها زمنًا حين كان يحكمها أمثال: (عبد الرحمن الداخل، وولده هشام، وعبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، ويوسف بن تاشفين، ويوسف عبد المؤمن، وغيرهم)، حيث كانت غيرة هؤلاء المجاهدين شديدة على إسلامهم، فدوه بالنفس وهي عندهم له رخيصة، فهو أغلى من حياتهم، أشربت نفوسهم حبه، غدا تصورهم وفكرهم ونورهم وربيع حياتهم.

وعندما تغير الحال، وانتشر الترف وعمت الميوعة وسادت القيم المادية حياة الأندلسيين صاروا غنيمة باردة لأعدائهم. عندما قصد الإفرنج بلنسية لغزوها عام 456هـ، خرج أهلها للقائهم بثياب الزينة، فكانت وقعة بطرنة التي قال فيها الشاعر أبو إسحاق بن معلي:

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم *** حُلَلَ الحرير عليكم ألوانًا

 

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها *** لو لم يكن ببطرنة ما كانا

ضعف المسلمون في الأندلس وسلب كثير من ديارهم؛ لما تنافس الولاة والحكام من أجل إسعاد زوجاتهم وجواريهم بالباطل والترف المشوب بالهوس. وإليك ما فعله المعتمد مع إحدى زوجاته: اشتهت زوجة المعتمد بن عباد أن تمشي في الطين وتحمل القِرَب، فأمر المعتمد بن عباد أن ينشر المسك على الكافور والزعفران، وتحمل قربًا من طيب المسك وتخوض فيها تحقيقًا لشهواتها!! ولكن الله -المعز المذل- أراد أن تنقلب الأمور على المعتمد، فيؤخذ أسيرًا في أغمات وتبقى بناته يغزلن للناس يتكسبن.

 

ولقد أبان ابن خلدون -رحمه الله-، عاقبة انغماس الدول في الترف، وأن زعماءها يصبحون بسبب الترف، بعد قوتهم وشدة عصبيتهم التي أقاموا به الملك وحموه من الدمار وعدوان الأعداء، في الضعف والعجز والجبن، بمنزلة النساء والصبيان، لا يقدرون على مدافعة الأعداء عن دولتهم وملكهم، وأنهم يحاولون أن يغطوا على عجزهم وضعفهم، بما يظهرون من الأزياء والفروسية للتلبيس على رعاياهم. فقال -رحمه الله-: "ويبلغ فيهم الترف غايته بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالاً على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة، ويُلَبِّسون على الناس في الشارة والزي، وركوب الخيل وحسن الثقافة يموهون بها وهم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها، فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته".

 

وقد عمل الأوربيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم، مع حرصهم الشديد على أن يَحْتَجِزوا دون هذه الأمم عناصرَ الصلاح والقوة، من العلوم والمعارف والصناعات والنظم النافعة. وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي إحكاماً شديداً واستعانوا بدهائهم السياسي وسلطانهم العسكري حتى تم لهم ما أرادوا، وجلبوا إلى هذه الديار نساءهم الكاسيات العاريات، وخمورهم ومسارحهم ومراقصهم وملاهيهم، وقصصهم وجرائدهم ورواياتهم وخيالاتهم وعبثهم ومجونهم، وأباحوا فيها من الجرائم ما لم يبيحوه في ديارهم، وزينوا هذه الدنيا الصاخبة العابثة التي تعج بالإثم وتطفح بالفجور، في أعين البسطاء الأغرار من المسلمين الأغنياء وذوي الرأي فيهم والمكانة والسلطان.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات