محمد بن القاسم فاتح بلاد السند (تربية القادة وأثرها على نهضة الأمة)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

واستقدم أربعة آلاف من المسلمين وأسكنهم في المدينة للتأكيد على إسلام هذه المدينة وطمس الهوية الوثنية عنها. والذي فعله محمد بن القاسم كان من أذكى ما يفعله قائد يريد نشر دينه في الأرض، ذلك أن هذا الأمر قد أدى لتثبيت الإسلام في هذه المناطق حتى اليوم، وهو ما لم يفعله الفاتحون من بعده والذي اهتموا فقط بإخضاع المدن المفتوحة لطاعة الدولة الإسلامية دون العمل على نشر الإسلام في صفوفهم، مما جعلهم على الوثنية والهندوسية حتى اليوم..

 

 

 

 

من أخطر الأمور في حياة الأمم والجماعات والدول؛ أمر القيادة. فالقيادة شأنها عظيم وخطير، حتى اعتبر البعض ضعف القيادة من أعظم مشاكل المسلمين المعاصرة، فقال: "المسلمون إلى خير ولكن الضعف في القيادة. وقال الآخر: "القيادة شطر القضية، وشطرها الآخر الأمة بمجموع أفرادها ". ومن شدة عناية الإسلام بأمر القيادة، قال رسول الله -صلى الله عليه سلم-:"إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"، ورتب من الحقوق والواجبات المنوطة بأمر القيادة ما لم يكن في أي منهج آخر، ووضع من الضمانات والمسئوليات ما يجعل أمر القيادة هو الأخطر والأهم في سلم الترتيب الإداري في الدولة الإسلامية. حتى من شدة اهتمام الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الأمر قدموه على دفن الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقول: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وحين أنكر الخوارج ضرورة الخلافة، قال على بن أبى طالب -رضي الله عنه-: "لابد للناس من إمارة، برة كانت أو فاجرة، فقيل يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود وتأمن السبل ويخشاها العدو ويقسم بها الفيء". فالقيادة في الأمة بمنزلة الرأس في الجسد.

 

ولقد اعتنى الغرب عناية فائقة بأمر القيادة بعد قرون من التخبط في تيه وجهالة الأنظمة الاستبدادية في القرون الوسطى، وظل اعتناؤهم بأمر القيادة يتطور حتى غدا فناً مستقلاً وعلماً راسخاً، تقام من أجله المدارس والمعاهد، وتعقد له الدورات والمحاضرات، في حين تخلف هذا الفن عند المسلمين مع تخلفهم الحضاري منذ وقوع معظم بلاد العالم الإسلامي فريسة للاحتلال الصليبي الأوروبي الناهب لخيرات المسلمين والمحارب لدينهم وعقيدتهم، وما زال التخلف يزداد حتى لم يعد المسلمون يعرفون شيئاً عن تنشئة القادة وإعدادهم وتهيئتهم، ففقد المسلمون عاملاً من أقوى عوامل النهوض والتقدم، ولم يعرف حاضرهم قادة سياسيين مثل الراشدين أو عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ومراد الثاني ومحمد الفاتح وغيرهم، ولا قادة فتح مثل خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، والقعقاع بن عمرو، والمهلب بن صفرة، وبنوه العشرة، وقتيبة بن مسلم، وموسى بن نصير، وعماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي وغيرهم.

 

ولقد وجدت أجيال تربت على سموم الفرعونية والبابلية والوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية، ولم تعرف شيئاً عن دينها، فهل يقال عن هؤلاء قادة المستقبل وجنود معركة المصير؟! إن الواحد من هؤلاء قد لا يصلح لأن يقود نفسه أو بيته، فكيف يطلق عليه وصف القائد والزعيم، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالقيادة ليست تسلطاً ولا قهرًا ولا جبروتًا، لكنها أمانة وكفاءة، وبصيرة بالأمور وعلو همة، وصبر وثبات وثقة بنصر الله وطمأنينة إلى تأييده، نحرص على توافر الشروط الشرعية فيمن يقود، فالخليفة والحاكم ينبغي أن يكون ذكرًا، حرًا، عاقلاً، عدلاً، مجتهداً في دين الله، على معرفة بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، لا تأخذه رقة في إقامة الحدود الشرعية؛ فالخلافة موضوعة لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، والولاية والإمارة تكون للأمثل فالأمثل ولابد فيها من القوة والأمانة، ولا يجوز الترؤس بالجهالة، ولذلك قالوا: تفقهوا قبل أن ترأسوا، وقالوا: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي قبل أن تصبحوا سادة وقادة، أما الاكتفاء بمعرفة البروتوكول في تناول الطعام والشراب والمشي، وقراءة كتاب الأمير لمكيافيللى، فهذه الأمور لا تصلح لتربية الجنود فضلاً عن تخريج القادة.

 

وسوف نعرض في هذه المقالة لمنظور تاريخي تربوي في كيفية إعداد القادة وتنشئتهم منذ البداية، وإن سيرة هذا البطل الذي سوف نتكلم عنه، لهي مصدر فخر وعز واستعلاء للأمة الإسلامية والدين الإسلامي، الأمة التي كان من أبنائها مثل هذا البطل الذي قاد الجيوش الجرارة، وولي الأقاليم الكبيرة، وفتح المدن العريقة، وأدخل الإسلام إلى بلاد السند والهند، وأباد ملوك الكفر، وحطم الأوثان والمعابد الشركية، قام بذلك كله وهو فتى في ريعان شبابه ولم يبلغ العشرين، فحري بكل أب مسلم أن يربى أبناءه تربية القادة ذوي الهمم العالية والنفوس الراقية، على نهج سيرة أمثال هذا البطل الذي ينبغي أن يكون قدوة للشباب الذين تاهت عقولهم في أودية الدنيا ولم يعد أمامهم مثل هذا البطل القدوة.

 

من هو محمد بن القاسم؟

  

اسمه بالكامل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبى عقيل الثقفي، ولد سنة 72 هجرية بأرض العراق وكان أبوه القاسم بن محمد مما جاء لأرض العراق عند الحرب بين ابن الزبير -رضي الله عنه- وعبد الملك بن مروان، فأقام بها وهو ابن عم الوالي الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي، فعيَّن الحجاج عمَّه القاسم واليًّا على مدينة البصرة، فانتقل الطفل محمد بن القاسم إلى البصرة ، فنشأ محمد في أجواء الإمارة والمسئولية والقيادة، بين الأمراء والقادة: فوالده أمير، وبنو عمه وعمومته معظمهم في الإمارة والقيادة، فكان لذلك الأثر الكبير في شخصية الصغير محمد. وهذه التنشئة الصحيحة تؤكد على الوالدين أن يتحملا المسئولية أمام الله -عز وجل- أولًا- ثم أمام أبنائهم ثم أمام مجتمعهم، فالتربية على تحمل المسئولية هي تربية على إنشاء شاب يتحمل مسئولية علاقته بالله –سبحانه- وتعالى- ومسئولية أسرته ومسئوليته تجاه المجتمع، إن من يربَون هكذا كفيلون بإصلاح ما حولهم.

 

وكان الحجاج بن يوسف والي العراق رغم مساويه الكثيرة، إلا أنه محباً للجهاد مهتماً بتدبير الجيوش ونشر الإسلام، وكانت له عين فاحصة في اختيار الأبطال ومعرفتهم وبخبرته الواسعة بشئون الجهاد، وقعت عينه على ابن عمه الصغير "محمد بن القاسم" فبدأ في تقريبه وإسناد بعض المهام الصغيرة من أجل اختبار مدى عزمه وكفاءته وترقى في اختباراته له حتى إنه قد عهد إليه بولاية بعض المدن الصغيرة في إقليم فارس، وهو دون السابعة عشر، وقد أبان الفتى الصغير عن همة عالية وكفاءة قيادية منقطعة النظير. ذلك أن التربية لتحمل المسئولية دعامة من دعامات الاستقلال، ومن شأن التربية لتحمل المسئولية أن يشعر فيها الشخص بقيمته واحترامه لنفسه واستمتاعه بالحياة وعند القيام بالعمل يشعر الشخص بنتيجة عمله هذا، فإذا نجح فمن نفسه، وإذا أخفق عدل من سلوكه حتى ينجح، وعند تعديله لسلوكه يتعلم ويكتسب خبرات ومهارات، وهو ما سيظهر أثره بعد ذلك على أعمال وفتوحات هذا البطل المقدام.

 

محمد بن القاسم أصغر الفاتحين في التاريخ:

 

وكان محمد بن القاسم يسمع كثيرًا عن بلاد السند، فهي أرض الخيرات والأساطير والفلسفة والعلوم والأسرار، خبرها العرب جيداً قبل الإسلام، وبالتالي لم تكن تلك البلاد في ذلك الحين غريبة على المسلمين، فحاولوا فتحها في عهد الخليفة عمر والخليفة عثمان -رضي الله عنهما-، ثم زاد اهتمام العرب ببلاد السند حين قامت الدولة الأموية فغزاها المسلمون وفتحوا "مكران" ومصرها وأسكنها العرب، وهذا أول جزء من غربي البنجاب يدخل في دولة الإسلام، وبعد ذلك فصل المسلمون بين بلاد الهند وبلاد السند، فلما تولى الحجاج الثقفي جعل من أولوياته فتح هذا الثغر العظيم خاصة بعد قتل عامله "محمد بن هارون النمرى" في قتاله مع ملك السند "داهر" وقد رأى أن هذا الفتح لن يتم إلا بجيش قوي على رأسه قائد شجاع لا يبالى بجيوش "داهر" الضخمة ولا يستوحش من بعد المسافة وطول الطريق إلى السند.

 

حدث في سنة 88هـ أن سفينة عربية كانت قادمة من جزيرة الياقوت (بلاد سيلان) عليها نساء مسلمات، وقد مات آباؤهنَّ ولم يبق لهنَّ راعٍ هناك، فقررن السفر للإقامة في العراق، ورأى ملك سيلان في ذلك فرصة للتقرب إلى العرب فوافق على سفرهنَّ، بل حمل السفينة بهدايا إلى الحجاج والخليفة الوليد بن عبد الملك، وبينما كانت السفينة في طريقها إلى البصرة مارة بميناء الديبل ببلاد السند، خرج قراصنة من السند واستولوا عليها. وعندئذ كتب الحجاج إلى ملك السند يطلب منه الإفراج عن النساء المسلمات والسفينة، ولكنه اعتذر عن ذلك بحجة أن الذين خطفوا السفينة لصوص لا يقدر عليهم، فبعث الحجاج حملتين على الديبل، الأولى بقيادة عبيد الله بن نبهان السلمي، والثانية بقيادة بديل البجلي، ولكن الحملتين فشلتا، بل قتل القائدان على يد جنود السند. ووصلت الأخبار إلى الحجاج أن النساء المسلمات والجنود العرب مسجونين في سجن الديبل، ولا يريد ملك السند الإفراج عنهم عنادًا للعرب، وهنا كانت الأسباب تلح على الحجاج في إرسال جيش كبير لفتح تلك البلاد التي كان قراصنتها يضايقون السفن العربية التجارية المارة بين موانئ البلاد العربية وموانئ بلاد الهند.

 

وبعد بحث وتقليب نظر في قائمة القادة الأبطال، وقع الاختيار على بطلنا "محمد بن القاسم" وكان وقتها في السابعة عشر من العمر، وكان ذلك سنة 89 هجرية حيث بدأت فصول المجد والبطولة في حياة هذا القائد الصغير. اشترط محمد بن القاسم عدة شروط على الحجاج من أجل قيادة الجيوش تكشف عن مدى فهمه للقيادة، وطبيعة الغزو ونفسية المجاهدين، منها:

 

1-أن يكون الجيش كامل التجهيز والإعداد والمؤن حتى لا تتوقف سيرة الفتح، فأمده الحجاج بجيش يقدر بستة آلاف مقاتل مجهزين بكل شىء حتى المسال والإبر والخيوط.

 

2-أن يرافق الجيش البري أسطول بحري؛ ليكون الهجوم مزدوجاً وفى اتجاهين، ووافق الحجاج.

 

3-أن يواصل الجهاد والسير حتى ينتهي من فتح بلاد السند كلها.

 

فوافق الحجاج عليها كلها، وتحرك محمد بن القاسم بجيشه القوي إلى "مكران" فأقام بها عدة أيام يستجمع قوته بعد سير طويل وذلك لفتح مدينة "الدبيل" أحصن مدن السند،  ووصل بالفعل إليها  ووافاه الأسطول بآلات الحصار ومنها المنجنيق الكبير المشهور باسم "العروس" وكان يلزمه 500 رجل لتشغيله، وضرب "محمد بن القاسم" حصاراً شديداً على المدينة الحصينة، واستمات الكفار الهندوس في الدفاع عن مدينتهم وفكر "محمد بن القاسم" في فكرة عبقرية لفتح المدينة تعتمد في الأساس على خبرته بنفسية الأعداء وطبيعة تفكيرهم، فلقد كان في المدينة معبد ضخم لصنم معروف عندهم على قمته سارية خشبية طويلة جداً في نهايتها راية حمراء كبيرة إذا هبت الرياح تحركت هذه الراية كأنها كالمروحة الدائرة، وهى مقدسة عندهم، فأمر 'محمد بن القاسم' بتوجيه قذائف المنجنيق إلى هذه السارية حتى كسرها، وهو يعلم بتشاؤم الهندوس من ذلك، وبالفعل مع انهيار السارية انهارت معنويات الكفار واقتحم المسلمون المدينة، وفتحوها بعد معركة طاحنة وبنى "محمد بن القاسم" بها مسجداً واستقدم أربعة آلاف من المسلمين وأسكنهم في المدينة للتأكيد على إسلام هذه المدينة وطمس الهوية الوثنية عنها. والذي فعله محمد بن القاسم كان من أذكى ما يفعله قائد يريد نشر دينه في الأرض، ذلك أن هذا الأمر قد أدى لتثبيت الإسلام في هذه المناطق حتى اليوم، وهو ما لم يفعله الفاتحون من بعده والذي اهتموا فقط بإخضاع المدن المفتوحة لطاعة الدولة الإسلامية دون العمل على نشر الإسلام في صفوفهم، مما جعلهم على الوثنية والهندوسية حتى اليوم.

 

بعد فتح مدينة "الدبيل" أحصن مدن السند، واصل محمد بن القاسم سيره، فكان لا يمر على مدينة إلا فتحها وهدم معابد الوثنية والبوذية بها وأقام شعائر الإسلام وأسكنها المسلمون وبنى المساجد حتى غير خريطة البلاد تماماً وصبغها بصبغة إسلامية تامة. واستطاع محمد بن القاسم أن يبهر الهندوس بشخصيته القوية الحازمة وقد تعجبوا من شجاعته وحسن قيادته لجيش كبير وهو دون الثامنة عشر، وبالفعل أسلم عدد كبير من الهنود وانضم منهم أربعة آلاف رجل يقاتلون مع محمد بن القاسم، وكان لهم أثر كبير في القتال لخبرتهم بالبلاد ومعرفتهم للغة الهنود. وواصل محمد بن القاسم توغله في بلاد السند حتى التقى مع ملكها الغادر (داهر)، وانتصر عليه بعد معركة هائلة تغلبت فيها بطولة الفروسية على جبروت وكبر راكبي الفيلة. ودخل أهل السند في دين الله أفواجاً.

 

مأساة البطل العظيم:

 

وفى عام 95هـ هلك الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق، وخراسان، وسجستان، وكان محمد بن القاسم وقتها في الملتان، فعاد إلى (الرور)، ثم وجه جيشاً إلى مدينة (البيْلمان) ففتحوها صلحاً وواصل محمد بن القاسم فتوحاته وولّى وجهه شطر مملكة (الكجرات) وهي من أكبر مدن السند، وكان ملكها (دوهر) من أقوى الملوك بعد "داهر" وله جيش قوي، فأتى محمد بن القاسم "الكجرات" ونازل أهلها وقاتل "دوهر" وحدثت معركة عنيفة قُتل فيها "دوهر" وانتصر المسلمون في هذه المعركة انتصاراً ساحقاً، وبذلك استطاع محمد بن القاسم أن يقضي على أكبر ملكين في إقليم السند.

 

وظلّ محمد بن القاسم يتقدم من نصرٍ إلى نصر، وكان يستعد لفتح مملكة (قَنوج) أعظم إمارات الهند، وكانت تمتد من السند إلى (البنغال)، وكان قد أوفد بعثة من رجاله إلى ملكها تدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فردّ الملك الوفد ردّا غير كريم، فأخذ محمد يعد العدّة لفتحها وجهز جيشاً فيه عشرة آلاف من الفرسان، وبينما كان يتهيأ لهذا الفتح العظيم إذ جاءه خبر وفاة الخليفة الوليد بن عبد الملك، وتولى أخوه سليمان الخلافة. ومن هنا بدأت مأساة البطل العظيم.

فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة بدأ يغيّر ولاة الحجاج، وأعطى العراق لرجلٍ كان من ألدّ أعداء الحجاج وهو صالح بن عبد الرحمن، وكان الحجاج قد قتل أخاه سابقاً، فقرر صالح بن عبد الرحمن أن ينتقم من أقرب الناس إلى الحجاج وهم " بنو عقيل " ومنهم –بالطبع- "محمد بن القاسم، فعزله عن السند وولى رجلاً من صُنّاعه وهو يزيد بن أبى كبشة، وأمره بالقبض على محمد، للتحقيق معه في تهمة باطلة ألقيت عليه بالزور؛ للانتقام من الحجاج في شخص محمد بن القاسم. أخذ يزيد بن كبشة أمير السند الجديد محمد بن القاسم وقيّده وحمله إلى العراق، فقال محمد بن القاسم:

 

أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا *** ليوم كريهة وسداد ثغرِ

 

وبكى أهل السند على محمد بن القاسم، فقد كان قائداً يحكم بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-ولحسن معاملته لهم وتأمينهم على أموالهم وأنفسهم، ورحب أهل السند بحكم المسلمين لهم؛ لأنهم قاسوا كثيراً من ظلم وجور الهندوس. فلما وصل محمد بن القاسم إلى العراق، حبسه صالح بن عبد الرحمن بمدينته التي نشأ بها أميراً "واسط"، فأنشد محمد بن القاسم أبياتاً تكشف عن مدى إيمانه وورعه ونصحه للأمة الإسلامية:

 

فلئن ثَويتُ بواسطْ وبأرضها *** رهن الحديد مكبلاً مغلولاً

 

فلرُبّ قَينةَ فارسٍ قد رَعَتْها *** ولربَّ قَرنٍ قد تركتُ قتيلاً

 

وقال أيضاً كاشفاً عن صلاح قلبه وعدم رغبته في تفريق الصف المسلم، وإفساد ذات البين، والتسبب في الاقتتال الداخلي بين المسلمين:

 

ولو كنت أجمعَتُ الفِرارَ لوطئتُ *** إناثٌ اُعدّت للوَغَى وذكورُ

 

وما دخلتْ خيلُ السكاسِكِ أرضنا *** ولا كان من (عَك) علىّ أميرُ

 

مات محمد بن القاسم بالتعذيب، أو قُتل بعد تعذيبه، دون أن يشفع لهذا القائد الشاب، بلاؤه الرائع في توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولا مهارته الفذة في القيادة والإدارة، ولا انتصاراته الباهرة في السند، ولكنّ آثاره الخالدة لا تموت أبداً، وأعماله المجيدة باقية بقاء الدهر، ولم يختره الله إلى جواره، إلا بعد أن أبقى اسمه على كل لسان، وفى كل قلب، رمزاً للجهاد الصادق والتضحية الفذة والصبر الجميل والتربية الصالحة على القيادة والمسئولية. أما الذين عذبوه، فقد ماتوا وأهم أحياء، ولا نزال حتى اليوم نذكر محمد بن القاسم بالفخر والاعتزاز، ونذكر الذين عذبوه بالخزي والاشمئزاز. لقد عذب أولئك النفر أنفسهم حين عذبوه، وقتلوا أنفسهم حين قتلوه، وقد غيّبوا بظلمهم الأسود جسده، ولكنهم طهروا روحه ورفعوها إلى السماء، على حين أظهروا أجسادهم لمدة قصيرة وغيبوا أرواحهم في الظلمات.

 

هذه هي قصة البطل العظيم الذي كانت للتربية الصحيحة على تحمل المسئولية، وتحقيق ما يهدف إليه، والأخلاق الرفيعة، والإيمان العميق برسالة الإسلام، والفهم الصحيح لأهداف الجهاد وخدمة الدين، كلها هذه الأمور انصهرت وسُبكت في شخص القائد الفتى فاستحق وصف الشاعر:

 

ساس الجيوش لسبع عشر حجة *** ولداته عن ذاك في أشغالِ

 

فغدت بهم أهواؤهم وسمت به   ***   همم الملوك وسورة الأبطالِ

                          

  

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات