الحافظ عبدالغني المقدسي (حياته وشجاعته ومحنه المتتالية)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

وقال موفق الدين: كان الحافظ عبد الغني جامعا ً للعلم والعمل, وكان رفيقي في الصبا, وفي طلب العلم, وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه, إلا القليل, وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة, وعداوتهم, ورزق العلم, وتحصيل الكتب الكثيرة, إلا أنه لم يعمر.

 

 

 

التعريف به:

 

اسمه: تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي.

 

مولده: ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل في ربيع الأول, وقيل ثلاث أو أربع وأربعين.

 

صفته: قال الضياء: وكان ليس بالأبيض الأمهق, بل يميل إلى السمرة, حسن الشعر, كث اللحية, واسع الجبين, عظيم الخلق, تام القامة, كأن النور يخرج من وجهه, وكان قد ضعف بصره من البكاء, والنسخ والمطالعة.

 

ثناء العلماء عليه:

 

عن عبد العزيز بن عبدالملك الشيباني قال: سمعت التاج الكندي يقول: لم يكن بعد الدارقطني مثل الحافظ عبدالغني.  

 

وعن الكندي قال: لم ير الحافظ مثل نفسه.

 

وقال موسى المديني: قل من قدم علينا يفهم هذا الشأن؛ كفهم الشيخ الإمام ضياء الدين أبي محمد عبد الغني المقدسي, وقد وفق لتبين هذه الغلطات, ولو كان الدارقطني وأمثاله في الأحياء لصوبوا فعله, وقل من يفهم في زماننا ما فهم زاده الله علما ً وتوفيقا ً.

 

وقال أبو نذار ربيعة الصنعاني: قد حضرت الحافظ أبا موسى, وهذا الحافظ عبد الغني, فرأيت عبد الغني أحفظ منه.

 

قال الضياء: ما اعرف أحدا ً من أهل السنة رآه إلا أحبه ومدحه كثيراً, سمعت محمود بن سلامة الحراني بأصبهان قال: كان الحافظ يصف الناس في السوق ينظرون إليه, ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها.

 

قال ضياء الدين:  كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبينه, وذكر صحته, أو سقمه, ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان ابن فلان الفلاني ويذكر نسبه, فكان أمير المؤمنين في الحديث.

 

وعن إسماعيل بن ظفر قال: قال رجل للحافظ عبد الغني: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث, فقال: لو قال أكثر لصدق.  

 

وقال ابنه عبد الرحمن سمعت بعض أهلنا يقول: إن الحافظ سئل: لم لا تقرأ من غير كتاب ؟ قال: أخاف العجب.  

 

وقال الذهبي: الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثري المتبع عالم الحفاظ تقي الدين.

 

وقال ابن كثير عنه وعن المزي: فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظاً, وإتقاناً, وسماعاً, وإسماعاً, وسردا ً للمتون, وأسماء الرجال, والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا ً طائلا ً.

 

وقال ابن العماد: وإليه انتهى حفظ الحديث متنا ً وإسناداً, ومعرفة بفنونه مع الورع والعبادة, والتمسك بالأثر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

وقال ابن ناصر الدين: هو محدث الإسلام, وأحد الأئمة المبرزين الأعلام, ذو ورع, وعبادة, وتمسك بالآثار, وأمر بالمعروف, ونهى عن المنكر.

 

وقال الضياء: وكان مجتهدا ً على الطلب, يكرم الطلبة ويحسن إليهم, وإذا صار عنده طالب يفهم أمره بالرحلة, ويفرح لهم بسماع ما يحصلونه, وبسببه سمع أصحابنا الكثير.

 

وقال سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ يقول: ما رأيت الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ, فإني كل ما سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني, وهو الذي حرضني.  

 

وقال موفق الدين: كان الحافظ عبد الغني جامعا ً للعلم والعمل, وكان رفيقي في الصبا, وفي طلب العلم, وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه, إلا القليل, وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة, وعداوتهم, ورزق العلم, وتحصيل الكتب الكثيرة, إلا أنه لم يعمر.

 

عبادته وإجتهاده وأوقاته  

 

قال ضياء الدين: كان لا يضيع شيئا ً من زمانه بلا فائدة؛ فإنه كان يصلي الفجر, ويلقن القرآن, وربما أقرأ شيئا ً من الحديث تلقيناً, ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ركعات كثيرة, وينام نومة, ثم يصلي الظهر, ويشتغل إما بالتسميع أو بالنسخ إلى المغرب, فإن كان صائما ً أفطر, وإلا صلى من المغرب إلى العشاء, وينام إلى نصف الليل أو بعده, ثم قام كأن إنسانا ً يوقظه, فيصلي ما كتب له أن يصلي, ثم يتوضأ ويصلي إلى صلاة الفجر, وربما توضأ سبع مرات, أو ثمان في الليل, وقال: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت أعضائي رطبة, ثم ينام نومة يسيرة إلى الفجر.

 

وقال أخوه الشيخ العماد: ما رأيت أحدا ً أشد محافظة على وقته من أخي.  

 

قال الضياء: وكان يستعمل السواك كثيرا ً حتى كأن أسنانه البرد.

 

وعن محمود بن سلامة التاجر الحراني قال: كان الحافظ عبد الغني نازلا عندي بأصبهان, وما كان ينام الليل إلا قليلاً, بل يصلي ويقرأ ويبكي.

 

قال ضياء الدين كان يقرأ الحديث يوم الجمعة بجامع دمشق, وليلة الخميس ويجتمع خلق وكان يقرأ ويبكي ويبكي الناس كثيرا ً حتى إن من حضره مرة لا يكاد يتركه, وكان إذا فرغ دعا دعاء ً كثيرا ً.

 

وقال الشيخ: ابن نجا الواعظ بالقرافة يقول على المنبر: قد جاء الإمام الحافظ؛ وهو يريد أن يقرأ الحديث, فاشتهى أن تحضروا مجلسه ثلاث مرات وبعدها أنتم تعرفون, وتحصل لكم الرغبة, فجلس أول يوم, وحضرت, فقرأ أحاديث بأسانيدها حفظاً, وقرأ جزءا ً ففرح الناس به, فسمعت ابن نجا يقول: حصل الذي كنت أريده في أول مجلس.  

 

وقال بعض من حضر بكى الناس حتى غشي على بعضهم, وكان يجلس بمصر بأماكن.

 

وقال الفقيه نجم الدين بن عبد الوهاب الحنبلي يقول: وقد حضر مجلس الحافظ: يا تقي الدين, والله لقد جملت الإسلام, ولو أمكنني ما فارقت مجلسك.

 

جراءته وصدعه بالحق:

 

كان الحافظ عبد الغني آية من آيات الله - عز وجل - في القيام بهذه الفريضة المحكمة التي غابت من حياة المسلمين الآن، فقد كان جريئًا قوي الجنان ثابت الجأش في مواجهة الباطل لا يصبر على رؤية منكرًا أو سماعه، فيبادر بتغييره مباشرة بيده وبلسانه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يبالي بأمير ولا سلطان، وهذه الجرأة في الحق قد أورثته على حد السواء محبة في قلوب الناس وهيبة في صدورهم تجاهه وأيضًا عداوة في قلوب الفساق والحساد وأصحاب الضغائن.

 

قال الضياء: كان لا يرى منكرا ً إلا غيره بيده, أو بلسانه, وكان لا تأخذه في الله لومة لائم, قد رأيته مرة يهريق خمراً, فجبذ صاحبه السيف, فلم يخف منه وأخذه من يده, وكان قويا ً في بدنه, وكثيرا ً ما كان بدمشق يكسر الطنابير والشبابات.

 

قال الموفق: كان الحافظ لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه, وكنا مرة أنكرنا على قوم وأرقنا خمرهم وتضاربنا, فسمع خالي أبو عمر فضاق صدره, وخاصمنا فلما جئنا إلى الحافظ طيب قلوبنا, وصوب فعلنا وتلا: ( وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ) [لقمان: 17].

 

قال الضياء وسمعت أبا بكر بن أحمد الطحان قال: كان بعض أولاد صلاح الدين قد عملت لهم طنابير, وكانوا في بستان يشربون فلقي الحافظ الطنابير فكسرها.  قال: حدثني الحافظ قال: فلما كنت أنا وعبد الهادي عند حمام كافور؛ إذا قوم كثير معهم عصي, فأسرعت المشي, وجعلت أقول: حسبي الله ونعم الوكيل, فلما صرت على الجسر لحقوا صاحبي فقال: أنا ما كسرت لكم شيئاً, هذا هو الذي كسر.  قال: فإذا فارس يركض فترجل وقبل يدي وقال: الصبيان ما عرفوك, وكان قد وضع الله له هيبة في النفوس.

 

قال الضياء: سمعت فضائل بن محمد بن علي بن سرور المقدسي يقول: سمعتهم يتحدثون بمصر أن الحافظ كان قد دخل على العادل, فقام له, فلما كان اليوم الثاني جاء الأمراء إلى الحافظ, مثل سركس وأزكش, فقالوا: آمنا بكراماتك يا حافظ.  

 

وذكروا أن العادل قال: ما خفت من أحد ما خفت من هذا, قلنا: أيها الملك: هذا رجل فقيه.  قال: لما دخل ما خيل إلي إلا أنه سبع.

 

قال الضياء: وسمعت أبا بكر بن الطحان قال: كان في دولة الأفضل جعلوا الملاهي عند الدرج؛ ( يعني درج جيرون ) وهو موضع بدمشق, فجاء الحافظ, فكسر شيئا ً ثم صعد؛ (اي المنبر) يقرأ الحديث, فجاء رسول القاضي يأمره بالمشي إليه, ليناظره في الدف والشبابة, فقال: ذاك عندي حرام, ولا أمشي إليه, ثم قرأ الحديث, فعاد الرسول, فقال: لابد من المشي إليه, أنت قد بطلت هذه الأشياء على السلطان, فقال الحافظ: ضرب الله رقبته ورقبة السلطان, فمضى الرسول وخفنا فما جاء أحد.  

 

أخلاقه وشمائله:

 

قال الضياء: وكان شيخنا جواداً, لا يدخر دينارا ً ولا درهما ً مهما حصل, أخرجه, لقد سمعت عنه أنه كان يخرج في اليل بقفاف الدقيق إلى بيوت متنكرا ً في الظلمة فيعطيهم ولا يعرف, وكان يفتح عليه بالثياب, فيعطي الناس, وثوبه مرقع.

 

قال: وسمعت بدر بن محمد الجزري يقول: ما رأيت أحدا ً أكرم من الحافظ, كنت أستدين؛ يعني لأطعم به الفقراء فبقى لرجل عندي ثمانية وتسعون درهماً, فلما تهيأ الوفاء أتييت الرجل فقلت: كم لك ؟ قال: مالي عندك شيء, قلت: من أوفاه ؟ قال: قد أوفي عنك, فكان وفاء الحافظ, وأمره أن يكتم عليه.  

 

وعن منصور الغضاري قال: شاهدت الحافظ في الغلاء بمصر؛ وهو ثلاث ليال يؤثر بعشائه ويطوي.

 

وعن سليمان الأسعردي قال: بعث الأفضل بن صلاح الدين إلى الحافظ بنفقة وقمح كثير ففرقه كله.

 

رأيت يوما ً قد أهدى إلى بيت الحافظ بمشمش, فكانوا يفرقون فقال: من حينه: فرقوا ( لن تناالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [آل عمران: 92].

 

وقد فتح له بكثير من الذهب وغيره, فما كان يترك شيئا ً حتى قال لي ابنه أبو الفتح, والدي يعطي الناس الكثير, ونحن لا يبعث إلينا شيئا.

 

مصنفاته:

 

كتاب (الصحاح في عيون الأحاديث الصحاح) مشتمل على أحاديث الصحيحين؛ فهو مستخرج عليها بأسانيده في ثمانية وأربعين جزءا ً.

 

كتاب ( نهاية المراد ) في السنن, نحو مائتي جزء لم يبيضه, كتاب ( اليواقيت ), مجلد.  كتاب ( تحفة الطالبين في الجهاد والمجاهدين ), مجلد.  كتاب ( فضائل خير البرية ), أربعة أجزاء.  كتاب ( الروضة ), مجلد.  كتاب ( التهجد ), جزءان.  كتاب ( الفرج ) جزءان.  كتاب ( الصلاة إلى الأموات ), جزءان.  كتاب ( الصفات ), جزءان.  ( محنة الإمام أحمد ) جزءان.  ( ذم الرياء ) جزء.  ( ذم الغيبة ) جزء.  ( الترغيب في الدعاء ) جزء.  ( فضل الصدقة ) جزء. ( فضل عشرذي الحجة ) جزء.  ( فضائل الحج ) جزء.  ( فضل رجب ), ( وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ), جزء.  ( الأقسام التي أقسم بها النبي صلى الله عليه وسلم  ) كتاب.  ( الأربعين بسند واحد )؛ ( أربعين من كلام رب العالمين ).  كتاب  ( الأربعين ), آخر كتاب ( الأربعين ) رابع, ( اعتقاد الشافعي ), جزء.  كتاب ( الحكايات ), سبعة أجزاء.  ( تحقيق مشكل الألفاظ ), مجلدين.  ( الجامع الصغير في الأحكام ), لم يتم.  ( ذكر القبور ) جزء.  ( الأحاديث والحكايات )؛ كان يقرؤها للعامة مائة جزء, ( مناقب الصحابة ), وأشياء كثيرة جدا ً ما تمت, والجميع بأسانيده, بخطه المليح الشديد السرعة, و( أحكامه الكبرى ) مجلد, و ( الصغرى) مجلدين, كتاب ( درر الأثر ), مجلد, كتاب ( السيرة )؛ جزء كبير.

( الأدعية الصحيحة), جزء.  ( تبيين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نعيم في معرفة الصحابة ), جزءان تدل على براعته وحفظه.  كتاب ( الكمال في معرفة رجال السنة), في أربعة أسفار, يروى فيه بأسانيده.  

 

محنه المتتالية

 

ـتعتبر المحنة التي تعرض لها الحافظ عبد الغني المقدسي امتدادًا للمحنة التي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل من قبل ولكن بصورة تختلف قليلاً، فكلاهما تعرض للمحنة بسبب ثباته على العقيدة الصحيحة وتمسكه بمذهب السلف وعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن خصم الإمام أحمد في محنته كان المعتزلة الذين كانت لهم دولة وصولة أيام خلافة المأمون والمعتصم والواثق بني العباس، في حين أن خصم الحافظ عبد الغني في محنته كان الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري (ت324هـ

 

ــ وكان للأشعري ثلاثة أحوال: في بداية حياته وكان فيه اعتزاليًا من تلاميذ الجبائي، غارقًا في بدع المعتزلة من تعطيل وتأويل، أما المرحلة الثانية وفيها تاب من الاعتزال وتفرغ للرد عليهم ولكن بأسلوبهم البدعي وطريقتهم الكلامية فأدى ذلك به لآراء وأقوال خالف بها عقيدة السلف الصالح ووقع في مزالق التأويل والتعطيل واخترع مذهبًا جديدًا عرف باسمه، وعقيدة عرفت باسم العقيدة الأشعرية، جاءت خليطًا من الاعتزال والإرجاء والتجهم وسائر الفرق المبتدعة في العقيدة، وأما المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته فعاد فيها لعقيدة أهل السنة والجماعة وسار على نهج السلف الصالح وكتب رسالته الشهيرة "الإبانة".

وأتباع الأشعري هم الذين تمسكوا بما كان عليه في المرحلة الثانية من حياته، وأصروا على المخالفات والبدع والتعطيل الذي وقع فيها الأشعري واتبعوا الأصول التي وضعها الأشعري في عقيدته والتي تقدم على التأويل والتعطيل والإرجاء والتي خالفوا بها عقيدة أهل السنة والجماعة في كل أبوابها وفصولها تقريبًا وظلت طريقة الأشعري مهجورة متروكة، يحذر منها أهل العلم وينهى عنها أرباب السلوك ويأمر بلعنها على المنابر السلاطين، مثلما حدث أيام السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 433هـ، وظلت هذه العقيدة من جملة الفرق المبتدعة حتى أواخر القرن الخامس الهجري وتحديدًا أيام الوزير الشهري نظام الملك(ت 485هـ). والذي احتضن أتباع الأشعري وفتح لهم المدارس في بغداد وأرجاء العراق وبدأ المذهب الأشعري ينتشر في العراق والشام، وساهم بعض علماء الأشاعرة مثل الباقلاني والجويني وابن فورك والغزالي والقشيري في الترويج للعقيدة بقوة، كما سام بعضهم أيضًا في إشعال حرب كلامية ضروس مع الحنابلة الذين كانوا يمثلون عقيدة السلف وأهل السنة، وكما فعلت المعتزلة من قبل مع الحنابلة استعدى الأشاعرة السلطة الحاكمة على الحنابلة، ورموهم بالتجسيم والتشبيه والكفر، وبالغ الأشاعرة في أذية الحنابلة وفعلوا معهم ما لم يفعله مسلم بكافر ناهيك عن مسلم مثله وصاحب عقيدة صحيحة، وتعرض علماء الحنابلة وبالأخص علماء الحديث منهم لحملة شعواء من جانب الأشاعرة، وطاردوهم في كل مكان وأشاعوا عليهم الأباطيل والأكاذيب حتى نفر كثير من الناس عنهم ولعل هذا يفسر قلة شيوع المذهب الحنبلي في العالم الإسلامي الآن، فهذا موروث قديم تسبب فيه الأشاعرة منذ أزمان بعيدة.

ولقد تعرض  الحافظ عبد الغني لحملة شعواء وقاسية من جانب الأشاعرة في كل موطن وبقعة زارها، نظرًا لعلمه الواسع ومحبة العامة له واجتماع طلبة العلم عليه وأيضًا نظرًا لحدته وصرامته عند النقاش بحيث كان يفحم خصومه بشدة تجعلهم يتمنون بواره وهلاكه، كما أنه كان جريئًا في الصدع بالحق لا يداهن ولا يداري بل هو مثل الصاعقة المحرقة على كل مخالفة لله ولرسوله، ولمحنة الحافظ   فصول ومحطات كل واحدة منها تبين مدى الأذى وقدر المحن التي تعرض لها  الحافظ رحمه الله منها:

 

 محنته في أصبهان:

 

دخل   الحافظ عبد الغني  أصبهان [تقع الآن في إيران] لسماع الحديث وإسماعه عدة مرات وكانت أصبهان من المحطات الرئيسية التي يجب لكل طالب علم الحديث أن يدخلها، وخلال زياراته المتكررة لأصبهان كوَّن العديد من التلاميذ والطلبة وأحبه الناس، حتى أنه كان إذا مشى في أسواقها اجتمع عليه الناس يسلمون عليه ويقبلون يده وينظرون إليه، وقد طالع خلال إقامته بأصبهان كتاب "أسماء الصحابة" للحافظ أبي نعيم وهو من كبار علماء الأشاعرة فاستدرك عليه في مائتين وتسعين موضعًا، فثارت ثورة الأشاعرة في أصبهان وسعوا إلى رئيس البلد وهو الصدر الخجندي وكان مثلهم أشعريًا متعصبًا لأبي نعيم، فطلب  الحافظ وأراد قتله، فاختفى  الحافظ وتحايل تلاميذه حتى أخرجوه خفية من أصبهان قبل أن يصل إليه الأشاعرة فيفتكوا به.

محنته في الموصل:

 

خلال رحلة الحافظ العلمية دخل مدينة الموصل العراقية وجلس في جامعها الكبير وأخذ في تدريس كتاب "الضعفاء" للعقيلي، وعندما وصل لذكر أبي حنيفة وكلام العقيلي عن ضعفه من جهة الحفظ، ثار أهل البلد وكانوا من الأحناف وحبسوه وقرروا قتله ولكن صديقه الواعظ ابن البرنس أنقذه بحيلة ذكية فأطلقوا سراحه.

  محنته في دمشق: 

 

كان الحافظ يجلس في الجامع الأموي بدمشق لقراءة الحديث في رواق الحنابلة، وكان درسه مليئًا بالوعظ والذكر والبكاء من خشية الله فاجتمع عليه الناس، وازدحموا على حلقته فأكلت الغيرة قلوب الأشاعرة أمثال القاضي ابن الزكي والخطيب الدولعي وطلبوا المناظرة منه بين يدي والي البلد واسمه برغش، وفي المناظرة احتد  الحافظ عليهم واشتد بعد أن علت حجته حجتهم فما كان من الأمير برغش إلا أن أمر بنفيه من دمشق، فدعا  الحافظ على من ظلمه وشرده فأصيب ابن الزكي بصرع شديد حتى خولط في عقله، حتى مات على هذه الحالة وكذلك مات معه الدولعي وكلاهما في نفس العام الذي سعوا فيهز.

 

  محنته في مصــر:

 

بعدما حدث للحافظ من محن على يد أشاعرة دمشق، خرج منها إلى بعلبك فأقام بها مدة، فقال له أهلها: إن اشتهيت جئنا معك إلى دمشق نؤذي من آذاك فرفض  الحافظ حرصًا على السلامة وعدم إثارة أدنى فتنة بين المسلمين، ثم توجه  إلى مصر وأخذ في التحديث والتدريس وذلك سنة 595هـ، فلم يعجب ذلك أشاعرة دمشق الذين لم يكونوا ليرضوا بأي شيء سوى قتله أو نفيه ومنعه من نشر العقيدة الصحيحة، فأرسلوا بالعديد من الفتاوى إلى صاحب مصر وهو الملك عماد الدين بن السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي تشنع ضد الحنابلة عمومًا والحافظ عبد  خصوصًا، وترميهم بالتجسيم والتشبيه والزندقة وهكذا حتى عزم عماد الدين على طرد الحنابلة من كل أنحاء مصر والتنكيل بهم فدعا عليه الحافظ   ألا يمكنه الله عز وجل من ذلك، فخرج عماد الدين للصيد وفي نيته إصدار منشور الطرد بعد عودته من رحلة الصيد، فكبا به فرسه فسقط عنه فانخسف صدره ومات بعد عدة أيام وهو في السابعة والعشرين من العمر، فعظم الحنابلة في أعين الناس وعدوها كرامة كبيرة للحافظ، الذي أقام في مصر معززًا مكرمًا، فلم ييأس الأشاعرة من محاولاتهم المحمومة لإسكات الحافظ، فأخذوا في تأليب الملك العادل وولده الأمير الكامل محمد ضد الحافظ، وبالغ بعض الأشاعرة فأفتوا بكفره وإباحة دمه وكتبوا أوراق بذلك، ولكن الله عز وجل نجاه من كل سوء، وحفظه بحفظه لعباده المؤمنين والصالحين، ولكن الأمر قد ضاق بشدة على الحافظ وتكاثرت عليه الهموم والعلل وهو في كل يوم يترقب من يؤذيه ويسعى فيه حتى مات رحمه الله في القاهرة.

هذه كانت  الرجل الذي آثر مرضات الله - عز وجل - والصدع بالحق وكشف عوار الباطل وصبر على ذلك صبرًا منقطع النظير، فطارده خصومه وآذوه وشردوه وأخرجوه من كل مكان ذهب إليه، واستباحوه دمه وكفروه ونالوا من علمه وعرضه، ومارسوا بحقه أشنع أنواع الاضطهاد المذهبي لا لشيء إلا لأنه على العقيدة الصحيحة وينشرها ويعلمها للناس، ورغم الكرامات الناصعة التي جرت على يديه ضد خصومه إلا أنهم لم يرتدعوا ولم يرعوا عن إسكاته بكل طريق، حتى أسكته داعي الموت، وبقي التاريخ شاهدًا عدلاً عليهم وعلى جرائمهم، حتى أنه لم يبق أحد معهن اشترك في   محنة الحافظ إلا ابتلى وصار عبرة للناس، ورفع الله - عز وجل - ذكر الحافظ وبقيت كتبه وآثاره حتى الآن في حين أن خصومه لم يبق لهم ذكر ولا أثر.

 

وفاته:

 

قال الضياء: سمعت أبا موسى يقول: مرض أبي في ربيع الأول مرضا ً شديدا ً منعه من الكلام والقيام, واشتد ستة عشر يوماً, وكنت أسأله كثيرا ً ما يشتهي فيقول: أشتهي الجنة, أشتهي رحمة الله لا يزيد على ذلك, فجئته بماء حار, فمد يده فوضأته وقت الفجر فقال: يا عبد الله, قم صل بنا وخفف, فصليت بالجماعة, وصلى جالساً, ثم جلست عند رأسه فقال: إقرأ يس, فقرأتها, وجعل يدعو وأنا أؤمن, فقلت: هنا دواء تشربه, قال: يا بني, ما بقي إلا الموت, فقلت: ما تشتهي شيئا؟ قال: أشتهي النظر إلى وجه الله – سبحانه – فقلت: ما أنت عني راض ؟ قال: بلى, والله.  فقلت: ما توصي بشيء ؟ قال: مالي على أحد شيء ولا لأحد علي شيء, قلت: توصيني ؟ قال: أوصيك بتقوى الله, والمحافظة على طاعته, فجاء جماعة يعودونه, فسلموا فرد عليهم, وجعلوا يتحدثون, فقال: ما هذا أذكروا الله, قالوا لا إله إلا الله, فلما قاموا جعل يذكر الله بشفتيه, ويشير بعينيه, فقمت لأناول رجلا ً كتابا ً من جانب المسجد, فرجعت وقد خرجت روحه – رحمه الله -؛ وذلك يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ست وستمائة وبقي ليلة الثلاثاء في المسجد, واجتمع الخلق من الغد فدفناه بالقرافة.

 

قال الضياء سمعت أحمد بن يونس المقدسي الامين يقول: رأيت كأني بمسجد الدير وفيه رجال عليهم ثياب بيض وقع في نفسي أنهم ملائكة, فدخل الحافظ عبد الغني, فقالوا بأجمعهم: نشهد بالله إنك من اهل اليمين مرتين أو ثلاثا ً.  

 

 

--------

المصادر والمراجع:

 

  • سير أعلام النبلاء
  • البداية والنهاية
  • تهذيب التهذيب
  • طبقات الحنابلة
  • المقصد الأرشد
  • وفيات الأعيان
  • شذرات الذهب
  • من أعلام السلف
  • ترويض المحن
  • تذكرة الحفاظ

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
01-02-2021

السلام عليكم , تعديل لاالمكان المدفون فية ال امام , اسمه _ القرافة _وجزاكم الله خيرا

خطأ مطبعي .. شكرا لك على الملاحظة