الإمام سفيان الثَّوريّ (أميرُ المؤمنين في الحديث)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

علا ذكرُ الثَّوريِّ وانتشر خبرُه وطارت شهرتُه بين الناس, وهو شابٌّ دون العشرين, وذلك لعلوِّ همَّته وكثرة رحلته, وشدَّة زهده وورعه, وفرط ذكائه, وسعة محفوظاته, ومازال أمرُه في علوٍّ ورفعة, حتى لُقِّب بأمير المؤمنين في الحديث, وعلى الرَّغم من أنَّ عصره كان يزخر بالعلماء والأئمَّة والحفَّاظ والأعلام الأثبات، إلا أنَّه فاقهم جميعاً علماً وعملاً, وذلك كلُّه وهو في باكر شبابه ....

 

 

 

 

بين يدي الترجمة

 

من أهمِّ أعمال ووظائف العلماء الربَّانيِّين في الأمة، والتي ما نالوا المكانة السامية والعالية في سماء الفضل والرُّقيِّ إلا بها: إرشادُ الناس وتعليمهم وتبصيرهم  بالحقِّ، وزجرهم عن الباطل, والثبات على الحقِّ والمبدأ مهما كانت الضغوط, ولا يزال الأمر بالمعروف والنَّهيُ عن المنكر، من أهمِّ بنود هذه المهمة المقدَّسة, وكلَّما كان العالم الربَّانيُّ متمسِّكاً بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر, كلَّما ارتفعت مكانته بين الناس, وقيمته في تاريخ هذه الأمة.

 

التعريف به 

 

•       هو شيخُ الإسلام, إمام الحفَّاظ, سيِّد العلماء العاملين في زمانه, أمير المؤمنين في الحديث, المجتهد المطلق, العابد الزاهد, قدوة العصر, وغُرَّة الدهر, الإمام أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثَّوريُّ الكوفي.

 

وُلد سنة 97 هـ اتفاقاً، في بيت علمٍ وورعٍ وديانة وصلاحٍ، فأبوه: سعيد بن مسروق الثَّوري، من ثقات المحدثين, ومعدودٌ في طبقة صغار التابعين, ومن تلاميذ الشَّعبيِّ, وقد أخرج له الجماعة الستة في دواوينهم, وُلد سفيان في الكوفة في خلافة سليمان بن عبدالملك, وظلَّ بها معظم حياته, وقد خرج منها سنة 155 هـ أثناء محنته مع خلفاء بني العباس, ولم يعُد إليها حتى وفاته.

 

أمَّا أمُّه فقد كانت امرأةً صالحة, تعي جيداً دور الأم في تربية أولادها على الصلاح والتُّقى, فقد دفعت بولدها "سفيان" نحو طريق طلب العلم وحلقة الدرس, وقالت له: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي, وكان أبوه فقيراً مشغولاً بالحديث.

 

رحلته العلمية 

 

بدأ الثوريُّ في طلب العلم صغيراً، وفي سن مبكرة, وكان يصف نفسه في تلك المرحلة المبكرة في طلب العلم، فيقول: لقد كنت أختلف إلى درس مالك بن دينار, وعليّ ثيابٌ قصار, وقرطاسٌ صغيرٌ مثلُ أذُني الفار, وله وجهٌ مثل الدِّينار, فأجلس في الحلقة مثل المسمار، ولي همَّة كشعلة نار.

 

انطلق الثَّوريُّ كالشِّهاب يطلب العلم من مشايخ الوقت وعلماء العراق، فلم يترك عالماً ولا إماماً ولا شيخاً معروفاً، إلا قصده وسمع منه حتى بلغ عددُ شيوخه ستَّ مائة شيخ, كبارُهم الَّذين رووا عن أبي هريرة، وجرير بن عبدالله، وابن عباس -رضي الله عنهم- أجمعين, أمَّا ما ذهب إليه ابنُ الجوزيِّ بأنه قد روى الحديث عن عشرين الفاً, فلا يصح مطلقاً, وقد قال الذهبيُّ أنَّ أكثر علماء الإسلام روايةً: الإمام مالك وقد بلغ عدد شيوخه الثقات وغيرهم ألفاً وأربعمائة.

 

علا ذكرُ الثوري وانتشر خبره، وطارت شهرته بين الناس, وهو شابٌّ دون العشرين, وذلك لعلوِّ همَّته وكثرة رحلته, وشدَّة زهده وورعه, وفرط ذكائه, وسعة محفوظاته, ومازال أمره في علوٍّ ورفعة, حتى لُقِّب بأمير المؤمنين في الحديث, وعلى الرَّغم من أنَّ عصره كان يزخر بالعلماء والأئمة والحفاظ والأعلام الأثباتن إلا أنَّه فاقهم جميعاً علماً وعملاً, وذلك كلُّه وهو في باكر شبابه, قال أحدُ معاصريه وهو أبو المثنى : سمعتهم بمروَ يقولون : قد جاء الثَّوريُّ, فخرجت انظرُ إليه, فإذا هو غلامٌ قد بقل وجهه (أي أنبت شعره لأول مرة).

 

ثناء الناس عليه 

 

للثَّوريِّ منزلة خاصة عند المسلمين عامَّة, وأهلِ العلم والحديث خاصَّةً, فلقد كان الإمامُ الثَّوريُّ كلمة إجماع بين العالمين, لم يختلف عليه اثنان, ولم يؤثَر عن أحد من المسلمين مهما كان حاله أنَّه نال الثَّوريَّ بكلمة ذمٍّ أو انتقاص, فهو من سادات المسلمين, ومن الأئمَّة الأعلام المتبوعين, ولقد ظلَّ مذهبه واختياراته الفقهية والعلميَّة معمولاً بها حينا من الدهر, ولو وجد الثوريُّ من التلاميذ والأتباع من يقوم بمذهبه وعلمه لظلَّ مذهبه قائماً حتى الآن, ومن بين المذاهب المتبوعة المعروفة, ولكنه مثل اللَّيث بن سعد, وأبي ثور والأوزاعيِّ, وغيرهم من الأئمَّة الذين لم يجدوا من يقوم بهم, وينشر علمهم, وهذه طائفة من كلام وثناء الناس على الإمام الثَّوريِّ: 

 

قال شعبة بن الحجاج: سفيان أمير المؤمنين في الحديث, ساد الناس بالورع والعلم.

 

قال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود  -من كبار التابعين– لاحتاجا إلى سفيان.

 

قال سفيان بن عينية : ما رأيت رجلاً أعلمَ بالحلال والحرام من سفيان الثَّوريِّ.

 

قال الفضيل بن عياض: كان سفيان الثوري –والله– أعلمَ من أبي حنيفة.

 

قال بشر الحافي: كان الثوريُّ عندنا إمام الناس, وسفيانُ في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما.

 

قال شعيب بن حرب : إنِّي لأحسب أنه يُجاء غداً بسفيان حجةً من الله على خلقه, يقولُ لهم : لم تُدركوا نبيَّكم, قد رأيتم سفيان.

 

قال يحيى بن معين: ما خالف أحدٌ سفيان في شيءٍ، إلا كان القول قول سفيان.

 

قال ابن المبارك : ما نُعت لي أحدٌ فرأيتُه، إلا وجدته دون نعته، إلا سفيان الثوريِّ.

 

قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.

 

قال الأوزاعيُّ: لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً، يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه؛ لاخترت لهم سفيان الثَّوريَّ.

 

قال الشَّافعيُّ: ما رأيتُ بالكوفة رجلاً أتبع للسُّنَّة, ولا أودُّ أني في مسلاخه من سفيانَ الثَّوريِّ.

 

قال يحيى القطَّان : سفيان الثوريِّ فوقَ مالك في كلِّ شيءٍ.

 

قال أحمد بن حنبل: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيانُ الثَّوري, لا يتقدَّمه أحد في قلبي.

 

قال الذهبيُّ: قد كان سفيان رأساً في الزهد والتألُّه, والخوف, رأساً في الحفظ, رأساً في معرفة الآثار, رأساً في الفقه, لا يخافُ في الله لومة لائم, من أئمَّة الدين.

 

زهده وورعه 

 

المقصود بالزهد : خلوُّ القلب من الدنيا, وعدم الحرص عليها, فليس هو نفض اليدين منها, والقلب متعلِّق بها, شديدُ الشغف بحبها.

 

قال يحيى بن نصر بن حاجب:  سمعتُ ورقاء بن عمر،، يقول :إن الثَّوري لم ير مثل نفسه.

قال وكيع: سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ, ولبس الخشن, ولكنه قصر الأمل, وارتقاب الموت.

 

عن عيسى بن يونس قال: مات سُفيان الثَّوريُّ, مستخفياً قد جعل قميصه خريطة قد ملأها كتباً.

 

وعن شعيب بن حرب، قال: قال لي الثوري: يا أبا صالح, احفظ عني ثلاثاً: إذا احتجت إلى شِسع فلا تسأل, وإن احتجتَ إلى ملحٍ فلا تسأل, واعلمْ أنَّ الخبز الذي تأكله بملح عجن, وإن احتجتَ إلى ماء فاستعمل كفيك, فإنه يجري مجرى الإناء.

 

قال أبو قطن: عن شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم.

 

وعن أبي السريِّ، قال: قيل لفضيل بن عياض –ما كان يذهبُ إليه من الورع-: مَن إمامُك في هذا؟ قال: سفيان الثوريّ.

 

أهدي لسفيان الثوريِّ ثوباً فرده, فقال له من أهداه: لست أنا ممَّن يسمع الحديث حتى تردَّه عليَّ, قال: علمتُ أنك ليس ممن يسمع الحديث, ولكنَّ أخاك يسمع مني الحديث؛ فأخاف أن يلينَ قلبي لأخيك أكثرَ مما يلين لغيره.

 

وعن قتيبة بن سعيد، قال : لولا سفيانُ لمات الورع.

 

وعن عبد العزيز القرشي، قال: سمعت سفيان يقول: عليك بالزهد, يُبصِّرك الله عورات الدنيا, وعليك بالورع, يُخفِّف الله عنك حسابك, ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك, وادفع الشَّكَّ باليقين, يَسلم لك دينك.

 

وعن قبيصة قال: سمعت سفيان يقول: لا تصلح القراءةُ إلا بالزهد, وأغبط الأحياء بما تغبط به الأموات, وأحبّ الناس على قدر أعمالهم, وذلّ عند الطاعة, واستعص عند المعصية.

 

وعن العمري، قال: معاشر القراء, كلوا الدنيا؛ فقد مات سفيان الثوري.

وعن حفص بن غياث، وذُكر الثوري فقال: كان يتعزَّى بسفيان, وبمجالس سفيان عن الدنيا.

 

وعن يحيى بن يمان، قال: كان سفيان الثوريُّ يتمثل لهذا البيت:

 

باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً *** بدارسٍ خلقٍ يا بئس ما اتَّجروا

 

عبادته وخشيته 

 

عن عليِّ بن فضيل، قال: رأيت سفيان الثوري ساجداً حول البيت, فطفت سبعة أسابيع (يقصد سبعة أشواط) قبل أن يرفع رأسه.

 

وعن ابن وهب، قال: رأيت الثوريَّ في المسجد الحرام بعد المغرب صلى, ثم سجد سجدة, فلم يرفع رأسه حتى نودي بصلاة العشاء.

 

قال رجلٌ لسفيانَ: أوصني. قال : اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها, وللآخرة بقدر بقائك فيها.

 

وعن عبدالله بن عبدان، أو محمد البغلاني، قال: حدَّثنا عبدالله: أنَّ رجلاً كان يتبع سفيان الثوري, فيجده يُخرج من لبنة رقعةً نظر فيها, فأحبَّ أن يعلم ما فيها, فوقع في يده الرُّقعة, فإذا فيها مكتوب: سفيان, اذكر وقوفك بين يدي الله –عزوجل-.

 

وعن سعيد بن صدقة أبو مهلل، قال: أخذ بيدي سفيانُ الثوري, فأخرجني إلى الجبال, فاعتزلنا ناحيةً عن طريق الناس, فبكى, ثم قال: يا مهلهل, إن استطعتَ أن لا تخالط في زمانك هذا أحداً فافعل, وليكن همُّك مرمة جهازك, واحذر إتيان هؤلاء الأمراء, وارغب إلى الله في حوائجك لديهم, وافزع إليه فيما ينوبك, وعليك بالاستغناء عن جميع الناس, وارفع حوائجك إلى من لا تعظم الحوائج عنه, فوالله, ما أعلم اليوم بالكوفة أحداً أفزع عليه في قرض عشرة دراهم أقرضني, ثم كتبها عليَّ, حتى يذهبَ ويجيء, ويقول: جاءني سفيان, فاستقرض منِّي, فأقرضته.

 

وعن مزاحم بن زفر: صلَّى بنا سفيان الثوريُّ المغرب, فقرأ حتى بلغ : (إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاك نًسْتعينُ) بكى, حتى انقطعت قراءته, ثم عاد فقرأ: الحمد لله.

 

وعن عطاء الخفاف، قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً, فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكونَ في أمِّ الكتاب شقياً.

 

وعن عبدالرحمن بن رستة، قال: سمعت ابن مهدي يقول: بات سفيانُ عندي, فجعل يبكي, فقيل له: لذنوبي عندي أهونُ من ذا –ورفع شيئاً من الأرض-, إني أخافُ أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت.

 

وعن يحيى القطان، قال: ما رأيتُ رجلاً أفضل من سفيان, لولا الحديثُ كان يُصلِّي ما بين الظهر والعصر, وبين المغرب والعشاء, فإذا سمعَ مذاكرةَ الحديث ترك الصلاة وجاء.

 

وعن عبدالرحمن بن مهديِّ، قال: كنا نكون عند سفيان الثوري، فكأنه قد أوقف للحساب فلا نجترئ أن نكلمه, فنعرض بذكر الحديث, فيذهب ذلك الخشوع, فإنَّما هو حدَّثنا وحدَّثنا.

 

اتِّباعُه للسنة 

 

وعن شعيب بن حرب، قال: قلت لسفيان الثوري: حدِّث بحديث في السنة ينفعني الله به, فإذا وقفت بين يديه, وسألني عنه, قلت: يارب, حدَّثني بهذا سفيان؛ فأنجو أنا, وتؤخذ. فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم, القرآن كلام الله غير مخلوق, منه بدأ وإليه يعود, ومن قال غيرَ هذا, فهو كافر, والإيمانُ قول وعمل ونيَّة, ويزيد وينقص, وتقدمه الشيخين إلى أن قال: يا شعيب, لا ينفعك ما كتبت, حتى ترى "المسح على الخفين", وحتى ترى أنَّ إخفاء "بسم الله الرحمن الرحيم" أفضلُ من الجهر به, وحتى تؤمنَ بالقدر, وحتى ترى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر, والجهادُ ماض إلى يوم القيامة, والصبرُ تحت لواء السلطان, جارَ أو عدل، فقلت: يا أبا عبدالله, الصلاةُ كلها؟ قال: لا, ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت, وأمَّا سائر ذلك فأنت مخير؛ لا تُصلي إلا خلف من تَثِقُ به, وتعلم أنَّه من أهل السنة, فإذا وقفتَ بين يدي الله وسألك عن هذا, فقل: يارب, حدَّثني بهذا سفيان بن سعيد, ثم خلِّ بيني وبين ربي –عزَّ وجلَّ-.  

 

قال الذهبي: هذا الأثرُ قد ثبت عن سفيان.

 

درر من أقواله 

 

 

عن عبد الله بن سابق، قال: قال سفيان الثوري: "النظر إلى وجه الظالم خطيئة".

 

 

وعن يوسف بن أسباط، قال: قال سفيان الثوري: من دعا لظالم بالبقاء, فقد أحبَّ أن يَعصي الله.

 

 

وعن يحيى بن يمان، قال: حدثنا سفيان، قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: تقرَّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي, والتمسوا رضوانه بالتباعد منهم, قالوا: فمن نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيته, ويُرغِّبكم في الآخرة عمله, ويزيدُ في علمكم منطقه.

 

 

وعن محمد بن أبي منصور أو غيره، قال : عاتبَ سفيانُ رجلاً من إخوانه، كان همَّ أن يلتبس بشيء من أمر هؤلاء؛ فقال له: يا أبا عبدالله, إنَّ عليَّ عيالاً. قال: لأن تجعل في عنقك مخلاةً؛ فتسأل على الأبواب, خيرٌ من أن تدخلَ في شيء من أمر هؤلاء.

 

وعن حذيفة المرعشيِّ، قال: قال سفيان: لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها, أحبُّ إليَّ من أن أحتاج إلى الناس.

 

وعن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان يقول: من أحبَّ أفخاذ النساء لم يفلح.

وعن عبدالله بن بشر، قال: سمعت الثوري يقول: إنَّ الحديث عزٌّ؛ من أراد به الدنيا فدنيا, ومن أراد الآخرة فآخرة.

 

وعن أبي أسامة، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إنما العلم عندنا الرُّخَص عن الثقة, فأما التَّشديد فكل إنسان يُحسنُه.

 

وعن الفريابي، قال: سمعت سفيان يقول: يعجبني أن يكون صاحبُ الحديث مكفياً؛ فإنَّ الآفات إليه أسرع, وألسنة الناس إليه أسرع.

 

وعن زيد بن أبي الزرقاء، قال: خرج سفيان, ونحن على بابه نتداوى في النسخ, فقال : يا معشر الشباب, تعجَّلوا بركة هذا العلم؛ فإنَّكم لا تدرون, لعلكم لا تبلغون ما تؤمِّلون منه, ليفد بعضكم بعضاً.

 

وعن حفص بن عمرو، قال: كتب سفيان إلى عباد بن عباد: أما بعد, فإنك في زمان كان أصحاب النبيِّ يتعوَّذون أن يُدركوه, ولهم من العلم ما ليس لنا, ولهم من القدم ما ليس لنا, فكيف بنا حين أدركناه على قلَّة علم, وقلة صبر, وقلة أعوان على الخير, وفسادٍ من الناس, وكدر من الدنيا؟! فعليك بالأمر الأول، والتمسك به, وعليك بالخمول؛ فإنَّ هذا زمن الخمول, وعليك بالعزلة, وقلة مخالطة الناس؛ فقد كان الناس إذا التقوا ينتفع بعضهم ببعض, فأما اليوم فقد ذهب ذالك, والنجاة في تركهم, فيما نرى, وإيَّاك, أن تخدع؛ فيُقال لك: تشفع وتراًَ عن مظلوم, أو ترُدّ مظلمة؛ فإنَّ ذلك خديعة إبليس, وإنَّما اتَّخذها القراءُ سُلَّماً, وكان يُقال: اتَّقوا فتنة العابد الجاهل, والعالم الفاجر, فإنَّ فتنتهما فتنة لكل مفتون, وما لقيتَ من المسألة والفتيا, فاغتنم ذلك, ولا تنافسهم فيه, وإيَّاك, أن تكون ممن يُحبُّ أن يُعمل بقوله, أو يُنشر قوله, أو يُسمع من قوله, فإذا تُرك ذاك منه عرف فيه, وإيَّاك, وحبَّ الرياسة؛ فإنَّ الرجل تكون الرياسةُ أحبَّ إليه من الذهب والفضة, وهو باب غامض؛ لا يُبصره إلا البصيرُ من العلماء السَّماسرة, فتفقَّد نفسك, واعمل بنية, واعلم أنه قد دنا من الناس أمرٌ يشتهي الرجل أن يموت, والسلام.

 

وعن أحمد الزبيري, قال: كتب رجل من إخوان سفيان الثوريِّ إلى سفيان الثوري: أن عظني, فأوجز. فكتب إليه: عافانا الله وإياك من السوء كله, يا أخي, إنَّ الدنيا غمّها لا يفنى, وفرحها لا يدوم, وفكرها لا ينقضي, فاعملْ لنفسك حتى تنجوَ, ولا تتوانَ فتعطب, والسلام.

 

محنته ووفاته

 

محنة الإمام سفيان الثوري، ترجع في المقام الأول لوجوده في عصرين مختلفين، وشهوده لقيام دولة وانهيار أخرى، ومعاينته للأهوال والملاحم التي وقعت خلال ذلك القيام والانهيار، فأثر ذلك في نفسيَّته بشدة، وكوَّن الإمام رؤيته وحكمه على الدولة الجديدة من خلال الفتن والملاحم التي وقعت، وجعلت الإمام يفرُّ من أيِّ علائق مع تلك الدولة ويرفض أيَّ منصب تعرضه عليه السلطةُ الجديدة؛ لاعتراضه الكامل عليها شكلاً وموضوعًا.

 

وُلد سفيان الثوري سنة 97هـ بالكوفة كما أسلفنا، ونشأ وترعرع وطلب العلم في عهد الدولة الأموية المجاهدة، وطاف البلاد ولاقى الشيوخ، ولما صار في سن الكهولة في الخامسة والثلاثين، أي في سنة 132هـ وقع الزلزال الكبير في الأمة الإسلامية، وقامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وذلك بعد سلسلةٍ رهيبةٍ من المعارك الطاحنة والمجازر المروعة، وكان إعلانُ قيام تلك الدولة في الكوفة نفسِها، ورأى سفيان الثوري ذلك كله، وكان وقتَها قد صار من علماء الكوفة وشيوخِها المعروفين، إليه يَفزع الناس عند النوازل والمهمات طلبًا للفتوى  والسؤال، وكان سفيان الثوريُّ لا يرى الخروج على الأئمة، ولو جاروا من باب درء الفتنة وارتكاب أخفِّ الضررين، من أجل دفع أعظمهما ومنع المفاسد العظيمة، ولكنَّه في الوقت نفسِه يرى وجوبَ الإنكار على الملوك والأمراء والسلاطين، والصدع بالحقِّ مهما كان.

 

ومن أجل تلك الرؤية والفكرة، تعرَّض الإمام سفيان الثوريُّ للكثير من المحن والفتن، حيث طلبه خلفاءُ الدولة العباسية الواحدُ تلو الآخر، وعرضوا عليه منصب القضاء، ولكنه رفض بشدة، وفر منهم فقضى شطر حياته الأخير طريدًا شريدًا، لا يأوي إلي بلد ولا صديق إلا ينتقل منه لآخر وهكذا.

 

محنته مع الخليفة أبي جعفر المنصور

 

مرَّ بنا أثناء الحديث عن محنة الإمام أبي حنيفة، كيف قام الخليفة العباسيُّ أبو جعفر المنصور بالضغط عليه من أجل تولي منصب القضاء، فضربه وحبسه وتهدَّده، والإمام يرفض بكل شدَّة حتى مات قتيلاً في سجون المنصور، وبعد وفاة الإمام أبي حنيفة سأل المنصورُ عمَّن يلي الأمر، فوصفوا له سفيانَ الثوريَّ وأخبروه بأنه أعلمُ أهل الأرض، فأرسلَ في طلبه مرة بعد مرة، وسفيانُ يرفض القدوم عليه.

 

اشتدَّ أبو جعفر المنصور في طلب سفيان الثوريِّ، والثوريُّ مُصرٌّ على عدم تولِّي القضاء، حتى اضطُرَّ سفيان للخروج من الكوفة إلى مكة، فأرسل المنصورُ في الأقاليم بمنادٍ يقول: من جاء بسفيانَ الثوري فله عشرة آلاف، فاضطرَّ الثوريُّ للخروج من مكة إلى البصرة، وهناك عمل في حراسة أحد البساتين، ولنا أن نتخيَّل حجم المعاناة النفسيَّة التي تعرَّض لها إمامُ العصر، وهو يستخفي من الناس، ويفرُّ من مكان لآخر.

 

لم يمكث الثوريُّ في البصرة كثيرًا، حتى عرفه الناس وهمُّوا به، فخرج منها إلى بلاد اليمن، وهناك تعرَّض الإمام لمحنةٍ أشدَّ وأنكى، إذ اتَّهموه بالسرقة، وكان غيرَ معروف في تلك البلاد البعيدة، ورفعوه إلى الوالي وهو الأمير معن بن زائدة، وكان مشهورًا بالدهاء والمروءة وكرم الأخلاق، فلمَّا تكلَّم معه قال له: ما اسمك؟ قال سفيان: عبد الله بن عبدالرحمن، فقال معن: نشدتُك الله لما انتسبت؟ قال الثوريُّ: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال الأميرُ معن: الثَّوريُّ؟ قال: الثَّوريّ. قال معن: أنت بُغية أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فأطرق ساعة، ثم قال: ما شئت فأقم، ومتى شئتَ فارحل، فو الله لو كنتَ تحت قدمي ما رفعتها.

 

طالت غربةُ الثوري وتشريدُه في البلاد أيامَ الخليفة المنصور، وهو يتنقَّل من مكانٍ لآخر تارة بالعراق، وأخرى بالحجاز، وثالثة باليمن، ثم قرَّر الثوري في النهاية أن يذهبَ إلى مكة حاجَّاً وعائذًا، وكان المنصور قد عزم على الحجِّ في نفس السنة 158هـ، وقد وصلت إليه الأخبار بأنَّ الثوري بمكة، فأرسل إلى واليها يطلب منه القبض على الثوريِّ وصلبه، وبالفعل نصبوا الخشبَ وأخذوا في البحث عن الثَّوريِّ لصلبه، فلمَّا علم الثوريُّ، قام وتعلَّق بأستار الكعبة، وأقسم على الله -عزَّ وجلَّ- ألا يدخل المنصور مكة، وبالغ في الدعاء والقسم، وبالفعل وقعت كرامةٌ باهرة للثوري، إذ يمرض المنصور بقدرة الله -عزَّ وجلَّ- ويموت قبل أن يدخل مكة، فعُدَّ ذلك من كرامات وبركات الثَّوريِّ، وهي كرامةٌ ثابتة لا حجة لمن ردَّها بسبب عدم فهم ألفاظها.

 

وكان السرُّ وراء رفض الثوريِّ للمنصب وإيثاره للفرار والتشرد في البلاد، أنَّه كان لا يصبر على أيِّ منكر يراه، وكان يقول عن نفسه: إذا رأيتُ منكرًا ولم أتكلَّم تبوَّلت دمًا من شدَّة الكمد. وهو يعلمُ أنه سيرى كثيرًا من المنكرات، ولا يستطيع أن يتكلم، لذلك فضل الفرار والخوف والتشرد على أن يسكُت على المنكر والباطل.

 

محنته مع الخليفة المهدي

 

ظنَّ الإمام الثوريُّ أنَّ محنته قد انتهت بوفاة الخليفة المنصور، فعاد إلى بلده الكوفة وبرز للناس وأخذ في التحديث والتدريس، كما هي العادة، ولكنه فوجئ بالخليفة الجديد وهو محمد المهدي بن الخليفة المنصور، يستدعيه على وجه السرعة، فلمَّا دخل عليه دار هذا الحوار العجيب:

 

قال الخليفة المهدي: يا أبا عبد الله هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمَّة بالكتاب والسنة. قال الإمام الثوريُّ: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين، على أنِّي آمن. قال المهدي: نعم. قال الثوريُّ: لا تبعث إليَّ حتى آتيك، ولا تُعطني حتى أسألك. فغضب المهديُّ وهمَّ أن يقع به، فقال له كاتبه: أليس قد آمنته؟ قال المهدي: نعم. ولكن اكتبْ إليه العهد بالقضاء، فكتبه وأعطاه للثَّوريِّ رغمًا عنه.

 

خرج الثوريُّ من عند الخليفة المهدي، ومعه عهد القضاء مختومًا بخاتم الخليفة نفسه، فلما مر على نهر دجلة رمى العهد في النهر، وكان معه أصحابُه، فنهَوه ونصحوه بقبول القضاء والعمل بالكتاب والسنة، فسفَّه قولهم واستصغر عقولهم، ثم خرج هاربًا إلى البصرة، واستخفى عند المحدث يحيى بن سعيد القطان، فلمَّا عرف المحدِّثون أخذوا في التوافد إلى بيت يحيى القطان، حتى انكشف أمره، فخرج من البصرة إلى الكوفة، واختبأ في دار عبدالرحمن بن مهدي.

 

اشتدَّ الخليفة المهدي في طلب الإمام الثوريِّ، ووضع على رأسه جائزة مالية قدرها مائة ألف درهم، خاصة بعد أن عرف أن الثوريَّ قد ألقى كتاب عهده في النهر، وظلَّ الثوريُّ يفرُّ من بلد لآخر وجنودُ الخليفة من ورائه لا يقدرون على الإمساك به، وقضى الإمام العامين الأخيرين من حياته شريدًا طريدًا خائفًا، ومع ذلك لم يفكر للحظة واحدة أن يقبل المنصب، وسبحانَ الله! الإمام العلامة الذي هو أجدر الناس بالمنصب يفرُّ منه ويتحمَّل كلَّ هذه المحن والابتلاءات، وآخرون لا يزنُ الواحد منهم عند الله -عزَّ وجلَّ-  جناح بعوضة من علمٍ يلهثون وراء أدنى المناصب بكل سبيل.

 

ظلَّ الثوريُّ في محنته تلك حتى جاءه الفرج من عند ربِّ السماء، وأنهى الله -عزَّ وجلَّ- محنته وآلامه وأحزانه وأكرمه أعظم كرامة، بأن توفَّاه إلى حضرته العلية، قبل أن ينال منه مَن شرَّدوه وآذَوه، والعجيب أنَّ الثوري قد كتب إلى الخليفة المهدي يقول: طردتني وشرَّدتني وخوَّفتني، واللهُ بيني وبينك، وأرجو أن يُخيِّر الله لي قبل مرجوع الكتاب، فرجع الكتاب وقد مات الإمام وانتهت محنته. 

 

-----------------------------------

المراجع والمصادر

 

سير أعلام النبلاء.

صفة الصفوة.

حلية الأولياء.

تاريخ بغداد.

البداية والنهاية.

تهذيب الأسماء واللغات. 

تراجم علماء الأمصار.

تهذيب الكمال. 

شذرات الذهب. 

من أعلام السلف.

ترويض المحن.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات