الإمام مسلم بن الحجَّاج صاحب الصَّحيح (عبقريُّ الحديث النَّبويِّ)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

وأجمعوا على جلالته وإمامته, وعلوِّ مرتبته في هذه الصَّنعة, وتقدُّمه فيها, وتضلُّعه منها, ومن أكبر الدَّلائل على جلالته وإمامته, وورعه, وحَذَقِهِ, وقعوده في علوم الحديث, واضطلاعه منها, وتفنُّنه فيها؛ كتابه "الصَّحيح" الذي لم يُوجد في كتابٍ قبله, ولا بعده من حسن التَّرتيب, وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة, ولا نقصان.

 

 

 

 

التعريف به

 

هو الإمامُ الكبير, الحافظ المجوِّد, حجَّة الإسلام, أميرُ المؤمنين في الحديث, صاحب الصَّحيح, أبو الحسين مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القُشيريُّ النيسابوريُّ, ولد سنة 204 هـ على أرجح الأقوال, وبدأ في طلب العلم وسماع الحديث سنة 218 هـ, وكان يحيى بن يحيى التَّميميُّ أولَ شيخٍ سمع منه, ثم حجَّ سنة 220 هـ فسمع من شيوخ مكة, ثم دخل الكوفة وسمع من شيوخها, ثم أسرع إلى وطنه نيسابور، وظلَّ يسمع بها عدة أعوام, ثم خرج مرةً أخرى للرحلة سنة 230 هـ فدخل العراقَ والحرمين ومصر والشام وسائر الأقاليم, والتقى مع الأعلام والشُّيوخ والأئمة الكبار مثل أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية والدارميّ والبخاريّ وابن سلام الجُمحيّ، وغيرهم من الشيوخ حتى بلغ عددُهم مائتين وأربعة وعشرين شيخاً.

 

أمَّا عن صفته فقد قال الحاكم: سمعتُ أبا عبد الرحمن السُّلميُّ يقول: رأيتُ شيخاً حسن الوجه والثياب, وعليه رداءٌ حَسَنٌ, وعمامةٌ قد أرخاها بين كتفيه, فقيل: هذا مُسلم, فتقدَّم أصحابَ السلطان, فقالوا: قد أمر أميرُ المؤمنين, أن يكون مسلمُ بن الحجَّاج إمام المسلمين, فقدَّموه فى الجامع, فكبَّر وصلَّى بالنَّاس.

 

وقال الحاكمُ: سمعتُ أبي يقول: رأيتُ مسلم بن الحجاج يُحدِّث في خان ( محمش ) فكان تامَّ القامة, أبيضَ الرأس واللحية, يُرخي طرف عمامته بين كتفيه، ولقد كان يعمل في تجارة البزِّ، وكان ميسورَ الحال، مُحسناً على أهل نيسابور، كثيرَ الإنفاق على إخوانه من طلبة الحديث، وهذا اليُسر ساعده على التفرغ لطلب العلم والرِّحلة إليه.

 

مصنفاته

 

صنَّف الإمامُ مسلم فى علم الحديث مُصنَّفاتٍ كثيرة, على رأسها دُرَّة كتبه "الصَّحيح" وسوف نُفرد الكلام عن مكانته ومنهجه وأسلوبه في موضعه, ومن مُصنَّفاته أيضاً المسند الكبير على أسماء الرجال, وكتاب الجامع الكبير على الأبواب, وكتاب العلل, وأوهام المحدثين, والتمييز, وكتاب من ليس له إلا راو واحد, وكتاب طبقات التابعين, والمخضرمين, والكُنى والأسماء, المنفردات والوحدان, والطبقات، ويتناول فيه معاصري الرسول =صلى الله عليه وسلم- الذين رأوه ورووا عنه, والَّذين شاهدوه فقط ولم يرووا عنه, وله كتاب الأقران وسؤالاتُ أحمد بن حنبل, ومشايخُ مالك, ومشايخ الثوري وغيرها من المصنَّفات النَّافعة البارعة.

 

ثناء أهل العلم عليه

 

 قال أحمد بن سلمة قرينُ الإمام مسلم: رأيتُ أبا زُرعة, وأبا حاتم يُقدِّمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصَّحيح على مشايخ عصرهما.

 

 وكان إسحاق بن راهوية إذا ذكر الإمام مسلم أمامه يقول: مراد كابن بوذ، وهي عبارة فارسية معناها: أيُّ رجلٍ كان هذا!

 

قال محمد بن بشار: حُفَّاظُ الدنيا أربعة: أبو زُرعة بالرِّي, ومسلم في نيسابور, والدَّارميُّ بسمرقند, ومحمد بن اسماعيل ببُخارَى.

 

قال أبو عمرو بن حمدان: سألتُ ابن عقدة الحافظ, عن البخاري ومسلم, أيِّهما أعلم؟ فقال: كان محمد عالماً, ومسلم عالماً, فكررت عليه مراراً, ثم قال: يا أبا عمرو قد يقع لمحمد بن إسماعيل الغلط فى أهل الشام, وذلك أنَّه أخذ كتبهم, فنظر فيها, فربما ذكر الواحدَ منهم بكنيته, ويذكره في موضعٍ آخرً باسمه, ويتوهَّم أنه اثنان, وأمَّا مسلم, فقلَّ ما يقع له من الغلط في العلل, لأنَّه كتب المسانيدَ, ولم يكتب المقاطيعَ ولا المراسيلَ.

 

قال النوويُّ: وأجمعوا على جلالته وإمامته, وعلوِّ مرتبته في هذه الصَّنعة, وتقدُّمه فيها, وتضلُّعه منها, ومن أكبر الدَّلائل على جلالته وإمامته, وورعه, وحَذَقِه, وقعوده في علوم الحديث, واضطلاعه منها, وتفنُّنه فيها؛ كتابه "الصَّحيح" الذي لم يُوجد في كتاب قبله, ولا بعده من حُسن التَّرتيب, وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة, ولا نقصان, وقال النَّوويُّ في موضعٍ آخر: واعلم أنَّ مسلماً -رحمه الله-؛ أحدُ أعلام أئمَّة هذا الشَّأن, وكبار المبرزين فيه, وأهل الحفظ والإتقان, والرَّحَّالين في طلبه إلى أئمَّة الأقطار والبلدان, والمعترف له بالتَّقدُّم فيه بلا خلاف, عند أهل الحَذَقِ والعرفان, والمرجوع إلى كتابه, والمعتمد عليه في كلِّ الأزمان.

 

قال أبو عبد الله الحافظ: إنَّما أخرجت نيسابورُ ثلاثة رجال: محمد بن يحيى, ومسلم بن الحجاج, وإبراهيم بن طالب.

 

قال محمد بن عبد الوهاب الفرَّاء: كان مسلمُ بن الحجاج من علماء النَّاس, ومن أوعية العلم.

 

قال الحافظ ابن حجر: ثقةٌ, حافظٌ, إمامٌ, مُصنِّف.

 

كتاب صحيح مسلم : أهمِّيَّتُه ومكانتــُـه

 

كتاب صحيح مسلم من أدقِّ وأصحِّ الكتب التي أنتجتها العقليَّة العلميَّة الإسلاميَّة, وقد اتَّفق جميع علماء الأمة المعتبرين، على أنَّ صحيح البخاري وصحيح مسلم أصحُّ ما على وجه الأرض بعد كتاب الله -عزَّ وجلَّ-, قال ابن حجر: حصل لمسلم في كتابه حظٌّ عظيم ومفرط لم يحصل لأحد مثلُه؛ بحيثُ أن بعض الناس –المغاربة– كان يُفضِّله على صحيح البخاريِّ, وذلك لما اختصَّ به من جمع الطُّرق وجودة السِّياق, والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي, من غير تقطيع, ولا روايةٍ بمعنى, وقد نسج على منواله من النَّيسابوريِّين, فلم يَبلغوا شأوه, فسبحان المعطي الوهَّاب.

 

قال النوويُّ: سلك مسلمٌ -رحمه الله- في صحيحه طُرقاً بالغةَ الاحتياط والإتقان, والورع, والمعرفة, وذلك مُصرِّح بكمال ورعه, وتمام معرفته, وغزارة علومه, وشدَّة تحقيقه, وبحفظه, وتعقده في هذا الشأن, وتمكُّنه من أنواع معارفه, وتبريزه في صناعته, وعلوِّ محله في التَّمييز بين دقائق علومٍ, لا يهتدي إليها إلا أفراد في الأعصار.

 

من شدَّة تحري مسلم الدِّقَّة والضبط في كتابه الصَّحيح؛ أنَّه فرَّق بين "حدَّثنا" و"أخبرنا", وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته, وكان في طريقته أنَّ "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصَّةً, أمَّا "أخبرنا" فخاصَّة بما قرأ على الشيخ وهو حاضر, ومن ضبطه أيضاً اعتناؤه باختلاف لفظ الرواة, كقوله: حدَّثنا فلان, وفلان, واللفظ لفلان, وكما إذا كان بينهما اختلافٌ فى حرف من متن الحديث, أو صفة الراوي, أو نسبه, أو نحو ذلك, فإنَّه يُبيِّنه, ومن ذلك أيضاً احتياطه في تلخيص الطرق, وتحول الأسانيد, مع إيجاز العبارة, وكمال حسنها, ومن ذلك حسن ترتيبه, وترصين الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه, وكمال معرفته بمواقع الخطاب, ودقائق العلم, وأصول القواعد, وخفيَّات علم الأسانيد, ومراتب الرواة.

 

أهمُّ شروح كتاب الصَّحيح

 

1. المعلم في شرح مسلم، لأبي عبد الله محمد بن عليِّ بن عمر المازري المالكي ت536هـ.‏

 

2. إكمالُ المعلم بفوائد شرح صحيح مسلم، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي ت 544هـ.‏

 

3. شرح صحيح مسلم، لأبي عمرو بن عثمان بن الصلاح. ت643هـ.‏

 

4. المنهاجُ في شرح صحيح مسلم بن الحجَّاج، لأبي زكريا يحيى بن شرف النَّوويِّ ت 676هـ.‏

 

5. السِّراج الوهَّاج، لأبي الطيب صديق حسن خان.

 

6 ـ الدِّيباج على شرح صحيح مسلم، للحافظ الكبير السيوطي، ت 911.

 

7ـ شرح شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي، ت 926‏.

 

8 ـ شرح الشيخ علي القاري الحنفي نزيل مكة، المتوفى سنة (1016هـ) وشرحه في أربعة مجلدات,

 

وله غيرُ ذلك قرابةُ الخمسين شرحاً بين المطوَّل والمختصر، بعضُها بالعربيَّة وبعضها بالتركيَّة، وبعضها بالأردية.

 

وفاته

 

ـ ظلَّ الإمام مسلم مُكبَّاً على حِلَقِ العلم والتَّحديث في نيسابور، يؤمُّه الطلبة من كلِّ مكان، وقد أصبحت الرِّحلة إليه في نيسابور، ومن أشهر من رحل إليه لسماع الحديث أبو عيسى الترمذيُّ، وابن خُزيمة، والجاروديُّ، وابن صاعد، وغيرهم من علماء الحديث المبرزين، كما اهتم بالتأليف والتصنيف يقطع الليل والنهار في العلم مذاكرة ودراسة، حتى جاء اليوم الذي توفَّاه الله فيه، بعد أن عُرضت عليه مسألة، فقام ودخل إلى بيته وأغلق عليه بابه وظلَّ يبحث فيها حتى الصَّباح وقد وجدها، ولكنَّه في نفس الوقت قد أصبح ميِّتاً، بصورة مفاجئة، وذلك يوم 25 رجب سنة 261 هجرية، ودفنوه في نَيسابور في مقبرة نصر آباد، وقد فتحت الوفاةُ المفاجئة للإمام مسلم البابَ لشيوع خبرٍ لا يصحُّ -والله أعلم- كما قال ذلك جمعٌ من أهل العلم، وهي أنَّ الإمام قد مات بسبب أكله للتَّمر بصورةٍ كبيرة، أتت عليه، وقال البعضُ أنَّ الإمام كان مصاباً بداء السكري، وقد تسبب التمر في ارتفاع السكر عنده، ومن ثم وفاته، والذي يترجَّح عندي أنَّ خبر أكل التمر لو صح، فليس له علاقة بموت الإمام، فكم من صحيح يموت من غير علة، وكم من سقيم يبقي حيناً من الدَّهر، وأما أن يكون الإمامُ قد مات بالسكتة شأنه في ذلك شأن الكثير من الناس، أو أنَّ التمر الذي أهدي إليه كان مسموماً لغرضٍ ما، وأيَّاً ما يكون الأمر، فلا تقدح الميتة في مكانة الإمام ومنزلته السامية في سماء الحياة العلميَّة للأمة الإسلاميَّة، فرحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة علي ما قدَّم للأمة من نفعٍ وعلمٍ واسع.

 

 

--------------------------------------

* المصادر والمراجع

سير أعلام النبلاء.

تذكرة الحفاظ.

مقدمة شرح النووي علي صحيح مسلم.

وفيات الأعيان.

شذرات الذهب.

البداية والنهاية.

مشاهير علماء الأمصار.

تاريخ بغداد.

الإمام مسلم صاحب الصحيح لمشهور حسن.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات