الإمام أحمد بن حنبل (1/2)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

نشأ الإمام يتيما ً، فقد مات أبوه وهو في الثلاثين من عمره, فبدأ فى طلب العلم وهو فى سن المراهقة, وكانت لوائح النَّجابة تظهر منه زمن الصِّبا, وقد كان شديد الحرص على طلب العلم وسماع الحديث, حتى إنَّه كان يخرج فى الغلَس لحضور الدرس, فتأخذ أمه بثيابه خوفاً عليه, وتقول: حتى يؤذِّن الناس –أي الصلاة– وكان وقتها ابن خمس عشرة سنة أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك وحماد بن زيد..

 

 

 

 

حياته وآراؤه ومذهبه ومحنته

التَّعريف به

هو الإمام حقَّاً, وشيخ الإسلام صدقاً, إمام أهل السنة, الفقيه المحدث, العلم الجبل, ركن الدين, وإمام المسلمين, وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة: الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني, يلتقي في نسبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نزار, وُلد سنة 164 هـ بمرو من أعمال خراسان, وكان أبوه محمد والياً على مدينة سرخس, وقدمت به أمُّه إلى بغداد, فنشأ بها وترعرع.

أما عن صفته الخُلقيَّة فقد كان طويلاً أسمر شديد السمرة, حسن الوجه, نحيفاً, يخضب بالحنَّاء, يتعاهد ثيابه وشاربه وشعر رأسه وبدنه كلَّه.

رحلته العلمية

نشأ الإمام يتيما ً، فقد مات أبوه وهو في الثلاثين من عمره, فبدأ فى طلب العلم وهو فى سن المراهقة, وكانت لوائح النَّجابة تظهر منه زمن الصِّبا, وقد كان شديد الحرص على طلب العلم وسماع الحديث, حتى إنَّه كان يخرج فى الغلَس لحضور الدرس, فتأخذ أمه بثيابه خوفاً عليه, وتقول: حتى يؤذِّن الناس –أي الصلاة– وكان وقتها ابن خمس عشرة سنة أي في نفس العام الذي مات فيه الإمام مالك وحماد بن زيد.

خرج الإمام فى أول رحلة علمية له إلى واسط لسماع الحديث من هشيم, وطلب مجلس ابن المبارك فلم يدركه, ثم واصل بعدها رحلته العلميَّة فسافر أسفاراً كثيرة إلى غالب الأمصار الإسلامية، فدخل الكوفة والبصرة والحجاز ومكة والمدينة, واليمن والشَّام والثغور, والسواحل والمغرب, وفارس وخراسان والأطراف, وبالجملة لم يسمع بثقة من الثقات أو صاحب حديث إلا شدَّ إليه الرِّحال وسمع منه, وبعد رحلة طويلة استغرقت عدة سنوات عاد من رحلته العلمية إلى بغداد, ومن شدة اهتمامه وتفرُّغه لطلب العلم لم يتزوج حتى بلغ الأربعين.

كان الإمام أحمد صبوراً فى طلب العلم، يطلبه من مظانِّه ومن كل سبيل, لا يبالي بالمشاقِّ والصعاب التي تلاقيه فى طلبه, حتى إنه كان يرهن حذاءه ليتقوَّتَ بثمنه عدة ليال, وأكرى نفسه باليمن مع الجمَّالين لما نفدت نفقته, وكان يمشي من الكوفة إلى البصرة على قدميه لسماع الحديث، حتى بلغ عدد شيوخه الذين روى عنهم في مسنده مائتين وثمانين ونيِّفاً.

عاد الإمام من رحلته العلمية، وقد حاز فنوناً كثيرة وعلوماً واسعة، حتى صار أحفظ أهل زمانه, فقد قال أبوزُرعة الحافظ لعبد الله بن الإمام أحمد: "أبوك يحفظ ألف ألف حديث, فقال له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب, وقد سئل أبو زُرعة: أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد, فقيل له: كيف عرفت؟ قال: وجدت كتبه ليس فى أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه, فكان يحفظ كل جزء ممَّن سمعه, وأنا لا أقوى على هذا".

ومن شدة حفظ الإمام أحمد صار مرجعاً معتمداً فى قبول الروايات والأحاديث, إليه كلمة الفصل فى هذا الفن, فقد قال إبراهيم بن شماس: "سألنا وكيعاً عن خارجة بن مصعب فقال: نهاني أحمد أن أحدِّث عنه", وقال عليُّ بن المديني: "أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحَدِّث إلا من كتاب", وقال شيخه الإمام الشافعي: "حضرت مجلساً في بغداد كلما تكلم فيه شابٌّ قال الناس كلهم: صدق, فقلت: من هو؟ قالوا: أحمد بن حنبل", وقد قال الحافظ الدَّارميُّ: "ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أعلم بفقهه, ومعانيه من أبي عبدالله أحمد بن حنبل".

وكان من قوة حفظه يُلحق المتون بالأسانيد و العكس من ذاكرته, فقد قال لابنه عبد الله: "خذ أيَّ كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف, فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد, وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك بالكلام".

وقد قال له الشافعي: "يا أبا عبدالله, إذا صحَّ عندكم الحديث, فأخبروني حتى نرجعَ إليه، أنت أعلم بالأخبار الصِّحاح منا, فإذا كان خبرٌ صحيح, فأعلمني حتى أذهب إليه".

أخلاقه وعبادته

الإمام أحمد كان فى الذُّروة السامقة فى الفضائل والشمائل, وكان عصره زاخراً بالعلماء والأئمة وكبار المحدثين، إلا أنه كان متفرداً من بينهم بمنتهى الكمال فى العلم والعمل, وكان الناس يتعلَّمون من أدبه وسمته وهديه وأخلاقه تماماً مثلما يتعلَّمون من علمه وفقه.

فقد كان زاهداً فى أسمى درجات الزُّهد, يأتي عليه اليوم والاثنان والثلاثة، لا يجد ما يأكله, ومع ذلك يرد الأموال الجزيلة ولا يقبلها من أحد مطلقاً, عامَّة طعامه الخلُّ والخبز الجاف, قال عنه العليميُّ: "أتته الدنيا فأبَّدها, والرياسة فنفاها, وعُرضت عليه الأموال, وفُوِّضت إليه الأحوال, وهو يردُّ ذلك بتعفُّفٍ, وتعلُّل, وتقلُّل", ويقول: قليل الدنيا يُجزي, وكثيرها لا يُجزي, ويقول: أنا أفرح, إذا لم يكن عندي شيء, ويقول: إنما هو طعام دون طعام ولِباسٌ دون لباس, وأيامٌ قلائل".

وقد حجَّ الإمام خمس مراتٍ منها ثلاثٌ راجلاً, وأنفق في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهماً, وكانت تنفد منه نفقتُه وهو فى رحلاته العلمية فلا يَقبل أيَّ مال يعرضه عليه شيوخه أو أقرانه, وقد سُرقت ثيابه وهو باليمن فجلس فى البيت ولم يخرج لسماع الحديث, ومع ذلك رفض أن يأخذ المال من زملائه واكتفى بدينار واحد أخذه كأجر نسخِ بعض الكتب, وكانت مجالسه كلها عامرةً بذكر الآخرة، لا يُذكر فيها شيءٌ من أمر الدُّنيا, وللإمام أحمد كتاب حافل عظيم، لم يُسبق الى مثله فى الزُّهد, قال عنه أهل العلم: إنَّ غالب الظن أنَّ الإمام أحمد كان يُطبِّق على نفسه ما ورد فى هذا الكتاب.

 

قال إبراهيم الحربيُّ: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن أحببتَ أن يدوم الله لك على ما تُحبُّ, قدِّم له ما يحب, والصبر على الفقر مرتبةٌ لا ينالها إلا الأكابر, والفقر أشرف من الغنى, فإنَّ للصبر عليه مرارةً, وكان الإمام أحمد مُستجابَ الدعوة له الكثير من المواقف المشهودة في ذلك, وكان مُحبًّا للوحدة يصبر عليها ما لا يطيقه أحد من الناس فى زمانه, وعُرض عليه القضاء عدَّة مرات فرفض بشدة".

 

أمَّا عن عبادته فقد كانت فى الغاية, فقد كان يُصلِّي فى كل يوم وليلة ثلاثَ مائة ركعةٍ، فلمَّا مرض من أثر التَّعذيب والضرب بالسياط فى المحنة، كان يُصلِّي كلَّ يوم وليلةٍ مائة وخمسين ركعة, ويقرأ كلَّ يومٍ سُبعاً من القرآن, وينام نومة خفيفة بعد العشاء, ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو, وكان إذا ذكر الموت, خنقته العبرة, وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب, وإذا ذكرتُ الموتَ, هان عليَّ كلُّ أمر الدنيا, وكان يخاف من الشُّهرة ويكرهها بشدة, وكان يقول:" أُريد أن أكون فى شعب بمكة حتى لا أُعرف, قد بُليتُ بالشُّهرة ", وكان يسرد الصيام, ومن عجيب أمره أنَّ ذروة تعرضه للتعذيب والضرب في المحنة كان فى شهر رمضان, بل في العشر الأواخر منه، ومع ذلك لم يفطر يوماً رغم قيام عذره فى ذلك, وكان مدمناً لصيام الإثنين والخميس والأيام البيض لا يتركها أبداً, وقد آلى على نفسه ألا يُحَدِّث بحديث إلا ويعمل به, وكان فى غاية الورع إذا اشتبه عليه شيءٌ تركه كله, وقد قاطع ولده صالحاً وسدَّ الباب الذي كان بين بيته وبيت صالح، لأنَّ صالحاً قد أخذ جائزة الخليفة المتوكِّل العبَّاسيِّ, وكان من شدَّة خوفه من الله -عزَّ وجلَّ- يبول دماً عبيطاً, وقال إبراهيم بن هانىء النيسابوري -وكان الإمام أحمد متخفِّياً عنده من الخليفة الواثق-: "كنتُ لا أقوى معه على العبادة، وقد رأيتُ منه أمراً عجباً فى الاجتهاد بالعبادة".

 

ثناء الناس عليه

 

وهذا باب مثل البحر الذي لا يدرك قعره, ولا تحصى درره, ولو أحببنا أن نستقصيَ ما ورد من كلام أهل العلم فى الثَّناء عليه لاحتجنا الى عدة مجلدات, فقد كان إماماً فى كل شيء, كمُل حالُه واستقام أمره فى العلم والعمل, فسارت بأخلاقه وفضائله وعلومه الركبان, وخضع له علماء الزمان، وأقرُّوا له بالإمامة والتقدم, وهذه طائفة منتقاة من أقوالهم:

 

قال البخاريُّ: "لما ضُرب أحمد بن حنبل كنَّا بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسيَّ يقول: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان أحدوثة", وقال إسماعيل بن الخليل: "لو كان أحمد فى بني إسرائيل لكان نبيًّا".

قال الشافعيُّ شيخه: "خرجت من العراق، فما تركت رجلاً أفضلَ ولا أعلم ولا أورعَ ولا أتقى من أحمد بن حنبل".

 

قال يحيى القطَّان شيخه: "ما قدم على بغدادَ أحبُّ إليَّ من أحمد بن حنبل".

 

وقال قتيبة: "مات سفيان الثوري ومات الورع, ومات الشافعيُّ وماتت السُّنن, ويموت أحمد بن حنبل وتظهر البدع, فإنَّ أحمد بن حنبل قام فى الأمَّة مقام النبوة".

 

قال أبو عمير بن النحاس – وذُكِر أحمد يوماً – فقال: "رحمه الله؛ فى الدين ما كان أبصره, وعن الدنيا ما كان أصبره, وفى الزهد ما كان أخبره, وبالصالحين ما كان ألحقه, وبالماضين ما كان أشبهه, عُرضت عليه الدنيا فأباها, والبدع فنفاها".

 

وقال بشرُ الحافي بعدما ضُرب أحمد بن حنبل: "أُدخِلَ أحمد الكيرَ فخرج ذهباً أحمر، أحمدُ قام في الأمة مقام الأنبياء في أقوامهم".

 

قال المُزَنيُّ: "أحمد بن حنبل يوم المحنة, وأبو بكر يوم الردة, وعمر يوم السقيفة, وعثمان يوم الدار, وعليٌّ يوم الجمل وصفين".

قال عليُّ بن المديني: "إذا ابتُليت بشيء فأفتاني أحمد بن حنبل؛لم أُبالِ إذا لقيتُ ربِّي كيف كان, فإني اتخذت أحمد حجَّةً فيما بيني وبين الله –عزَّ وجلَّ-, وما قام أحدٌ فى الإسلام ما قام أحمد بن حنبل".

قال يحيى بن معين: "كان فى أحمد بن حنبل خصالٌ ما رأيتها فى عالم قط, كان محدِّثاً, وكان حافظاً, وكان عالماً, وكان ورعاً, وكان زاهداً, وكان عاقلاً, وقد أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل, والله ما نقوى أن نكون مثله ولا نطيق سلوك طريقه" – يقصد الثبات فى المحنة -.

قال أبو بكر أبي داود: "أحمد بن حنبل مقدم على كل من يحمل بيده قلماً ومحبرة في عصره", وقال إسحاق بن راهويه: "اتخذت أحمد حجَّةً بيني وبين الله عزَّ وجلَّ".

وقد أفرط النَّاس فى الثَّناء على الإمام أحمد، حتى خرج الأمر إلى طور الغلو الذي لا يجوز ونشبت بسبب ذلك مشاحنات ومناظرات بين الحنابلة وأتباع المذاهب الأخرى.

فصول محنته الكبرى

السِّرُّ وراء ضخامة المحنة؟

وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أن هذه المحنة تفرَّدت من بينهم بأمور جعلتها من أكبر المحن التي تعرضت لها الأمة الإسلامية وعلماؤها، وذلك لعدة أسباب:

1ـ أنَّ هذه المحنة كانت في باب العقيدة أي في صميم قلب الأمة، وفي أصل قوتها ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال هم من وراء هذه المحنة والفتنة.

2ـ أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما خداعَ ثلاثة خلفاء عباسيِّين متتاليين وهم: المأمون ثم المعتصم ثم الواثق، وإقناعهم بتبنِّي عقيدة الاعتزال الضالة والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، لكن وإجبار الناس على ذلك الضلال، ولو بالقوة وحدِّ السلطة التي لا تطيق عادة أن تُخالف أو يَتحدَّى سلطانها أيُّ أحد مهما كانت مكانته وعلمه.

3ـ أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده، وإن كان قد تحمل عبئها الأكبر وحده، بل كانت محنة عامة وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، العالم والعاميَّ، الأحرار والعبيد، حتى الأسرى عند الأعداء كانوا يمتحنون على القول بخلق القرآن، فإن أجابوا وإلا ترُكوا رهن الأسر عند العدوِّ ولم تفُكَّ أسرهم الدولة.

4ـ أنَّ هذه المحنة عندما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها كرهًا، وبعضهم قد مات تحت وطأة التعذيب في سجن المبتدعة مثل البويطي ومحمد بن نوح ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد فيقال: قال الإمام أحمد وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير وربما الأمة كلها والله أعلم، لذلك قال المزني رحمه الله: "عصم الله الأمَّة بأبي بكر يوم الرِّدَّة، وبأحمدَ بن حنبل يومَ المحنة".

أصلُ المحنة

كان المسلمون أمة واحدة وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة، حتى وقعت الفتنة الكبرى وقُتل عثمان -رضي الله عنه- مظلومًا شهيدًا، فتفرقت الكلمة وظهرت الشرور وتمت وقعة الجمل ثم صفين وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها وعلى النقيض منها فرقة أخرى، الأولى تغالي والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل وقالت إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاة القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاة الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع وقوة السنة وسلطان الدولة الأموية ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل والجهم بن صفوان رائد القدرية والمغيرة بن سعيد وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في جحر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلالة حتى ولي المأمون العباسي وكان محبًا للعلوم العقلية وكلام الفلاسفة الأوائل، فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون ثم التفت حول عقله ولعبت به ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد الذي كان يطلبه ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبي الهذيل العلاف وثمامة بن أشرس وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم واعتنق مذهب الاعتزال والذي يقوم على عدة أصول وهي:

1ـ نفي الصِّفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفي الصفات: القول بأن القرآن مخلوق.

2 ـ نفي القدر، والقول بأنَّ العباد هم خالقو أفعالهم.

3 ـ القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.

4ـ الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.

5ـ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.

ظلَّ المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة ولا يجبر أحدًا على اعتناقها ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء والمحدثين وهو يخشى مكانتهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استمالة من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دؤاد وبشر المريسي أن يجبر العلماء وذلك بقوة الدولة وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة إسحاق بن إبراهيم بأن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد وقطع الأرزاق والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبأها والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.

الإمام أحمد والخلفاء الثلاثة

الإمام والخليفة المأمون العباسي

حُمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان، وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون وكان من قبل رجلاً لينًا، انتفخت أوداجه واحمرَّت عيناه وذهب ذلك اللين وغضب لله -عزَّ وجلَّ- وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده وقعد للدرس والتحديث، فالتف حوله الناس وسألوه عما جرى وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة وكره الإجابة على هذا السؤال، ولكن الأمر قد انتشر بسرعة بين الناس وعُرف من أجاب ممن رفض.

وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية، فتغيظ بشدة ممن رفض القول بخلق القرآن وطلب من قائد الشرطة إسحاق بن إبراهيم أن يجمع العلماء مرة أخرى ويمتحنهم ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ما عدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة، فقام إسحاق بحبسهم وتهديدهم بالضرب والحبس، فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا وأمر بحملهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.

حُمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فقد قابله بالرحبة -موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد- رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، قد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: "يا أحمد إن يقتلكَ الحقُّ مِتَّ شهيدًا، وإن عشتَ عشتَ حميدًا، وما عليك أن تُقتل هاهنا وتدخل الجنة"، فقوي قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات، ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنَّيْتَ، -أي كلَّفتَ نفسك مشقة السفر وعبور الفرات- فقال له أبو جعفر: "يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليُجيبنّ خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإنَّ الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب". فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله".

وفي طريق السَّفر كان الإمام أحمد يتهجد ويصلي في جوف الليل، ويدعو الله عز وجل أن لا يرى المأمون وألا يجتمع معه أبدًا، ويلحَّ في الدُّعاء، وفي رجب سنة 218هـ وقبل أن يصل الإمام أحمد ورفيقه محمد بن نوح إلى طرسوس هلك المأمون فجأة بلا مرض ولا تعب، فراح ضحيَّة سهم من سهام الليل من قوس مظلوم بوتر مكلوم هو دعاء الإمام أحمد عليه.

 

 

الإمام أحمد بن حنبل (2/2)

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات