من إنجازات الحضارة الإسلامية: نظام الرعاية الصحية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: دروس التاريخ

اقتباس

فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أدخل القاعة المخصصة للنقاهة، حتى إذا تم شفاؤه أعطي ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يعطى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتحدث له انتكاسة.

 

 

 

برغم ما أحرزته الحضارة الغربية من تقدم مادي وتكنولوجي في هذا العصر؛ فإن الحضارة العربية الإسلامية تظلُّ هي الأبقى والأصلح؛ لما تتميز به من طابع إنساني، يقوم على احترام آدمية الإنسان أيًّا كانت ديانته، أو جنسيته. فلقد وصلت الحضارة الغربية إلى قمة انهيارها وفسادها عندما أهدرت قيمة البشر، وحولتهم إلى مجرد آلات تعمل، فإذا توقفت عن العمل لمرض، أو عجز، أو شيخوخة فلا سبيل إلى صيانتها، ولكن يجب التخلص منها. فأصحاب هذه الحضارة المادية يبيحون القتل، ويسهلون سبله، ويقدمون الوصفات السحرية للانتحار والتخلص من الحياة لمن يرغب في ذلك.

 

 الحضارة الإسلامية تميزت عن دون الحضارات الأخرى ببعدها الإنساني الكبير، هذا البعد ظهرت آثاره في جميع مجالات الحضارة، وبالأخص في المجال الطبي، والتفرد الرائع للنظام الصحي في الإسلام الذي سبق به المسلمون غيرهم من الأمم والحضارات. ولم يكن غريبًا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبعد الإنساني في تعاملهم مع المريض؛ لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد؛ فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثم يحتاج إلى من يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدئ من روعه، ويخفف عن آلامه الجسدية، فضلاً عن المعنوية. 

 

أولاً: مظاهر رعاية الإسلام للمرضى:

رفع الحرج:

فالتشريع الإسلامي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض بكل وسيلة، ويخفف عنه الأعباء إلى أقصى درجة؛ فجعل للمريض رخصة الإفطار في رمضان، وإن عاقه اعتلال صحته عن الحج فلا حج عليه، وليس عليه إثم، كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالسًا أو نائمًا، أو حتى بعينيه، والمريض الذي يضره الماء في الوضوء يتيمم، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمم لسبب ما يصلي دون أي منهما، ويسمى فَاقد الطهورين. حتى في أوقات الجهاد في سبيل الله، رفع التشريع الإسلامي الحرج. عن المريض، فلا يجاهد ولا إثم عليه. يقول تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور: 61].

 

 تقدير المريض:

التشريع الإسلامي لم يكتف برفع بعض التكاليف، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحض على الوقوف إلى جوار المريض. فجعل رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- زيارة المريض وعيادته في بيته، أو في المستشفى حقًّا له على المسلمين، فقال فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً: " حق المسلم على المسلم ست...". وذكر منها: "وإذا مرض فعده ".  ثم بشر بالجنة نصيبًا لمن عاد مريضًا، فقال فيما رواه أبو هريرة: "من عاد مريضاً نادى مناد من السماء: "طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا".

 

رفع الروح المعنوية:

فقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  أن يذكر الخير عند المريض، وذلك من أجل رفع من روحه المعنوية، التي هي أحد أهم أسباب الشفاء، وأن يطمعه الزائر في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأَجل؛ فإن ذلك لا يرد شيئاً، وهو يطيب بنفس المريض".

 

بل إن رسول الله يرتفع بروح المريض المعنوية إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أَذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". ويقول فيما رواه أنس -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إنَّ الله قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة". وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كما عاجزًا مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه.

 

حفظ كرامة المريض:

ومن مظاهر رعاية الإسلام للمرضى، الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض، وتصون حياءه، وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته. ففي الشريعة الإسلامية لا يجوز -مثلاً-كشف عورة المريض إلاَّ لضرورة، وبالقدر المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة، وما إلى ذلك، كما لا يجوز أن يشهد فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة -وخاصة إذا كان من جنس مختلف-إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء، إلاَّ مع وجود ذي محرم لها، أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً، كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء. وكان من الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى كذلك، أن الشرع راعى حقوق المريض في العلاج حتى في أوقات الضرورة؛ بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك؛ وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس، والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل؛ وذلك حتى لا يفوت على المريض -رجلاً كان أو امرأة- فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذَّر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظًا على صحة المريض وحياته.

 

ثانياً: إسهامات الحضارة الإسلامية في مجال الطب: 

يعد علم الطب من أوسع مجالات العلوم التجريبية التي كان لعلماء المسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة، وكانت تلك الإسهامات على نحو غير مسبوق شمولاً وتميزًا وتصحيحًا للمسار؛ حتى ليخيل للمطلع على هذه الإسهامات الخالدة كأن لم يكن طب قبل حضارة المسلمين!!

حيث لم يقتصر الإبداع على علاج الأمراض فحسب، بل تعداه إلى تأسيس منهج تجريبي أصيل انعكست آثاره الراقية والرائعة على كافة جوانب الممارسة الطبية وقايةً وعلاجًا، أو مرافق وأدوات، أو أبعادًا إنسانية وأخلاقية تحكم الأداء الطبي. كما تتجلى روعة الإسهامات الإسلامية في الطب في تخريج هذا الحشد من العبقريات الطبية النادرة، التي كان لها -بعد الله -الفضل الكبير في تحويل مسار الطب إلى اتجاه آخر، تابعت المسير على نهجه أجيال الأطباء إلى يوم الناس هذا.

 

وفي ظل قوله -صلى الله عليه وسلم-: " تداووا؛ فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم " برزت أسماء لامعة في سماء الطب، قدمت للبشرية أعظم الانجازات، وساهمت في الحفاظ على الجنس البشري وسلامته، من أبرزهم: أَبو بكر الرازي، والذي يُعْتَبَرُ من أعظم علماء الطبِّ في التاريخ قاطبةً، وله من الإنجازات الطبية ما حدا بأكبر كليات الطب على مستوى العالم للاحتفاء به وإطلاق اسمه على قاعاتها البحثية والعلمية. ومنهم علي بن عيسى الكحال كان أعظم طبيب عيون في القرون الوسطى برمتها، ومن أعظم مؤلفاته كتاب (التذكرة). ومنهم أبو القاسم الزهراوي الذي يعتبر من أعظم الجراحين في تاريخ البشرية، وقد تمكن من اختراع أولى أدوات الجراحة كالمشرط والمقص الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، والتي من أهمها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة، وتمكن من إيقاف النزف بالتخثير. ويعتبر الزهراوي الواضع الأول لعلم (المناظير الجراحية) وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية، والتي عليها يقوم هذا العلم، وقام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار في الوقت الحاضر، إلى جانب أنه أول مخترع ومستخدم لمنظار المهبل، ويعتبر كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة بأوروبا.

 

أما أبرز الأطباء المسلمين وأكثرهم شهرة هو ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس، ولقد قدم ابن سينا للإنسانية أعظم الخدمات بما توصل إليه من اكتشافات، وما يسره الله له من فتوحات طبية جليلة؛ فقد كان أول من اكتشف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو الذي اكتشف لأول مرة طفيل (الإنكلستوما) وسماها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق العالِم الإيطالي (دوبيني) بنحو 900 سنة، كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ، والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقر عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أول من فرق بين المغص المعوي والمغص الكلوي، كما كشف ابن سينا طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًا لا ترى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض" وهو ما أكده (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرون من بعده بعد اختراع المجهر. كما يعد أول من أرسى (علم الطفيليات) فقد وصف لأول مرة (التهاب السحايا الأولي) وفرقه عن (التهاب السحايا الثانوي) -وهو الالتهاب السحائي-وغيره من الأمراض المماثلة، كما تحدث عن طريقة استئصال (اللوزتين)، وتناول في آرائه الطبية أنواعًا من السرطانات كسرطان الكبد، والثدي، وأورام العقد الليمفاوية، وغيرها. كما كان له باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي، والإسقاط، والأورام الليفية، وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسببه من أورام وحميات حادة، وأشار إلى أن تعفن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة، أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبل، كما تعرض أيضًا للذكورة والأنوثة في الجنين، وعَزَاهَا إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أَكده مؤخرًا العلم الحديث.

 

رابعاً: نظام المستشفيات في الحضارة الإسلامية: 

في الوقت الذي كان الأوروبيون يقومون بتغريق وتحريق المرضى اعتقاداً منهم أنهم مسكونون بأرواح شريرة، كان الخلفاء والأمراء وكبار الدولة يتنافسون في تشييد المستشفيات الجامعة المتكاملة التي فاقت على روعتها وحسن تنظيمها وإداراتها أرقى المستشفيات الموجودة اليوم في الحضارة الغربية. فقد أُسِّس أول مستشفى إسلامي في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، الذي حكم من سنة 86هـ إلى سنة 96هـ، وكان هذا المستشفى متخصصًا في الجذام، وأنشئت بعد ذلك المستشفيات العديدة في العالم الإسلامي، وبلغ بعضها شأوًا عظيمًا، حتى كانت هذه المستشفيات تُعدّ قلاعًا للعلم والطب، وتُعتبر من أوائل الكليات والجامعات في العالم، بينما أُنشِئ أول مستشفى أوربي في باريس بعد ذلك بأكثر من تسعة قرون، مثل المستشفى العضدي الذي أنشأها عضد الدولة البويهي سنة 371 هـ، ومستشفى المستنصر العباسي والملحق بالجامعة المستنصرية الشهيرة التي شيدها الخليفة المستنصر العباسي، والمستشفى النوري الذي شيده السلطان نور الدين محمود في دمشق 549 ه، والمستشفى الموحدي الذي أسسه المنصور الموحدي في الأندلس، وغير ذلك من المستشفيات الشهيرة عبر التاريخ الإسلامي، حتى وصل الأمر لبناء مشافي ودور إيواء للحيوانات المريضة كما حدث في دمشق أثناء حكم العثمانيين.

 

وهذه هي الخطوات المتبعة في مستشفيات بغداد ودمشق في القرن الخامس الهجري:

1-عند دخول المريض للمستشفى يفحص أولاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يكتب له العلاج، ويصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يقيد اسمه، ويدخل إلى الحمام للاغتسال، وتخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاص، ثم يعطى ثيابًا جديدة خاصة للمستشفى، ويدخل إلى القاعة المخصصة لأمثاله من المرضى، ويخصص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته.

 

2-وبعد دخول المريض للمستشفى يعطى الدواء الذي يعينه الطبيب، كما يوصف له الغذاء الموافق لصحته، وبالمقدار المفروض له، ولم يكن يضيق أبدًا على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يقدم لهم أطايب الطعام؛ فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام، والأبقار، والطيور، والدجاج، كذلك لا يضيق عليهم أبدًا في كميات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة.

3-فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أدخل القاعة المخصصة للنقاهة، حتى إذا تم شفاؤه أعطي ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يعطى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتحدث له انتكاسة.

 

ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام؛ وذلك من خلال المستشفيات المتنقلة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي كانت تجوب القرى، والنجوع، والجبال، والمناطق النائية بصفة عامة، والشاهد هنا أنه كان ينظر إلى رعايا الدولة المسلمة -في مجال الرعاية الطبية- نظرة متساوية بغض النظر عن بيئاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية. بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدت كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يجدون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بشر، ومن أبناء المجتمع على أي حال، وما ينزل بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم، لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم. فقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: "فكرت في أمر من في الحبوس (السجون)، وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم، وتحمل إليهم الأدوية والأشربة ويطوفون في سائر الحبوس، ويعالجون فيها المرضى.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات