دروس من معركة أحد

ادارة الموقع

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: دروس التاريخ

اقتباس

"..وهاهي ذي قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!!.."

 

 

 

كاد غبار المعركة يحجب شمس الضحى، فهي ترسل أشعتها مصبوغة بلون هذا التراب المتطاير من حوافر الخيول وأخفاف الإبل وأقدام المتحاربين من المشاة، ولو أتيح لك أن تطل من أعلى أحد على ذلك الميدان الرهيب لرأيت ما يملؤك رعباً، ثلاثة آلاف من شباب قريش لا تكاد الدنيا كلها تتسع لغرورهم واعتدادهم واندفاعهم، يحدوهم عطش الثأر لكرامة قد حطمتها في بدر سيوف الفئة المؤمنة من المستضعفين الذين يقودهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أقسموا بهبل وباللات والعزى ليغسلُنّ عار الهزيمة بدماء هؤلاء المسلمين الذين غرهم دينهم، ثم لا يعودون إلى مكة إلا بعد أن يردوا اعتبارها، فيعرف كل قاص ودان من عرب الجزيرة أن جبروت مكة ما زال في عنفوانه، إذا هو نطامن بعض لحظات حتى يخدع به الطامعون، فما يلبث أن يرجع أشد ما يكون قوة وكبرياء.
ثلاثة آلاف فارس لا تكاد تجد فيهم راجلاً، إلا هؤلاء النسوة القرشيات، تقودهم هند زوج أبي سفيان خلال صفوف المقاتلين من الوثنيين يشددن من أعصابهم، ويوقدن حميتهم، ليشفوا صدورهن الموتورة بما ثكلت من أبناء وأخوة وآباء في معركة بدر، فكأنّ أناشيدهم ألغام تتفجر في الصدور، فتحيلها براكين من اللظى لا تخمد حتى تلتهم كل شيء!.
وهناك على الجانب المقابل من سفح أحد ترتفع راية الرسول، وقد انتشر حولها المئات السبع من جنوده، في نظام لم تسيء إليه تحركات المعركة، على الرغم من النشاط العجيب الذي يغتلي في جبهة المسلمين.
وكان ظاهراً مدى التفاوت العددي بين الكثرة الكافرة والقلة المؤمنة، ولكن الظاهر أيضاً فرق ما بين الدوافع العاملة هنا وهناك، فما كان المسلمون ليقاتلوا بالسيوف التي في أيديهم وحدها، وإنما كانوا يقاتلون بقوة العقيدة التي في صدورهم، فهم - على قلة عددهم - أشبه بالذرة لا يكاد يحس لها وجود، ولكنها تنطوي من الطاقة على ما يسير الجبال، وينسف المدن، ويصنع المعجزات !.
ولقد خرج الرسول من المدينة بألف محارب، حتى إذا كان في الطريق إلى أحد بصر بكتيبة من اليهود قد أقبلت للانضمام إلى جيشه نصرة لحليفها ابن أبيّ رأس المنافقين في المدينة، ولكن الرسول لم يرض نصرتها وقال: "لا يستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك ما لم يسلموا ".. ، وعادت كتيبة اليهود، ثم انسحب خلفها منافقوا المدينة بقيادة شيخهم ابن أبيّ هذا، محتجاً بالغضب لكرامة حلفائه!..‍ وما كان انسحابه في الواقع إلا إضعافاً لعزيمة المسلمين، وإيهاناً لقوتهم...
وهكذا تقلص عدد المحاربين مع الرسول إلى سبعمائة مقاتل..، وكان ذلك باعث تخويف على مصير المسلمين، أن يلقوا بقوتهم القليلة تلك الكثرة الكاثرة من صناديد الوثنية وجباريها!..
ولكن المؤمنين مع رسول الله ما كانوا ليرتابوا في حكمة قائدهم المعصوم، فهم موقنون أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليرفض نصرة اليهود, ويخسر مساعدة المنافقين معهم، إلا إيثاراً لتطهير صفوفهم من عناصر الهزيمة والخيانة..، إنه خائض بالمؤمنين معركة الإسلام ضد الوثنية، وما وراء الوثنية من الظلم والطغيان، والعدوان، وما في الوثنية من حقد على الإنسانية وكفر بالحرية، وتأليب لقوى الشر، فهي إذن حرب الفكرة والعقيدة، فما ينبغي أن يكون في جنودها من لا يفنى وجوده اختياراً في هذه الفكرة وتلك العقيدة..
وهاهي ذي حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتجلى أبرز من الشمس منذ مطلع المعركة، إنّ هؤلاء المئات السبع ليقتحمون صفوف الآلاف الثلاثة بمثل عصف الإعصار المندفع يمر بالقصب فيقتلعه ويحطمه..، وكما تتماسك أجزاء الإعصار فتكون قوة الهباءة منه هي قوة الإعصار كله..، هكذا الفرد المؤمن من هذه القلة يضرب الضربة فيحس أنه يضربها بسبعمائة سيف، وسبعمائة ذراع، وسبعمائة قلب..، وبهذا وذاك تستحيل الكثرة قلة تافهة، وتتحول القلة كثرة لا نهاية لقوتها..
وسرعان ما سقط لواء المشركين فوق أشلاء عشرة من حماته - بني عبد الدار -..، فإذا جنود الكفر ينكشفون عن مواقعهم تحت ضغط الدفقة المؤمنة، وقد ملؤوا الساحة بجثث العشرات من زهرة شبابهم..، ولم يفتهم أن ينظروا - وهم في غمرة الهزيمة - إلى إلهِهِم الموقر يهوي على أم رأسه، وهو الذي حملوه من مكة على أضخم بعير، ليكون لهم عوناً ومسعفاً فإذا هم يغادرونه أحوج ما يكون إلى المعين المسعف..!
وضع الرسول-صلى الله عليه وسلم- بنفسه خطة المعركة، وأول ما فعله أن وزّع خمسين من مهرة الرماة وراء جيشه في أعلى الشعب من أحد، وألَحّ عليهم بملازمة أماكنهم قائلاً: "احموا ظهورنا.. إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا.. وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركوننا.."
ثم رتب جيشه في صف منتظم، وتخيّر للمقدمة أفراداً من الذين يوزنون بالمئات، وأمر ألاّ يباشر قتال إلا بإذنه، ولما نشب العراك انطلق المسلمون يعملون في نظام عجيب من توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكأنهم حجر الرحى تدور حول قطبها، فهي تميل يمنة ويسرة، ولكنها لا تنفض عن دائرة القطب، ولعل مرد التماسك في هذا النظام ثقة الجيش جميعاً بحكمة القائد ووجوب الطاعة له، فليس هناك جندي واحد إلا وفي صدره يقين مطلق بأن مصير المعركة يتوقف على مدى انسجام الجنود في إرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومن هنا كانت قلوبهم متعلقة بإشارته، يديرها في الاتجاه الذي توحي به الحكمة..
وهكذا سارت المعركة في اتجاهها الطبيعي..، وفي غمرة الاندحار الهائل شعر قادة الوثنية بعجز آلهتهم عن الصمود في وجه هذا الدم الجديد الذي دفعه الإسلام في شرايين جنوده..، وأدركوا أنهم أمام القوة التي لا تقهر، ولا تثبت لها حمية الجاهلية، مهما تبلغ هذه الحمية من الاستخفاف بالموت..، إنها القوة التي مزّقت صلات العصبيات والمنافع الأرضية لتقيم على أنقاضها وشائج أخرى من قرابة العقيدة..، وبذلك أزالت سلطان الأسر وحواجز الأنساب، لتجعل من الأفراد المتنابذين المتباعدين أسرة واحدة في أخوة جديدة دونها كل روابط الأرض..
أجل لقد كان مستحيلاً لقوة من البشر أن تتماسك في وجه هذا السيل الجارف من القوى التي يحارب بها محمد -صلى الله عليه وسلم-..، اللهم إلا أن تنقلب هذه القوى على نفسها فيحطم بعضها بعضاً..، وهيهات..، ما دام زمام هذه النفوس الجديدة في يد هذا القائد الجديد..
ولكن لا..، لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!..
إن النفوس التي كانت إلى ساعة خلت تقاتل بأمر ربها، لإعلاء كلمته والدفاع عن رسالته، قد جذبت الدنيا أعنتها، فإذا هي تنصرف عن مطاردة العدو لتشغل بجمع الغنائم، فهيأت له بذلك فرصة الاستجمام، ثم أناحت له مجال العمل لتجميع فلوله..
ورأى خالد بن الوليد، وهو قائد ميمنة المشركين، ما عرض لجنود محمد -صلى الله عليه وسلم- من التشاغل، وكان يرصد الأمر عن كثب، يترقب ظهور مناسبة تمكنه من نجدة قومه، فإذا هو يدور من رواء الشعب ليفاجئ رماة المسلمين، وقد اختلفوا فيما بينهم، واندفع أكثرهم إلى معسكر قريش يشركون إخوانهم في الغنائم، فلم يبق منهم في مركز الدفاع إلا دون العشرة من المؤمنين، أبوا أن يفارقوا المكان الذي أمرهم رسول الله بالتزامه مهما تكن النتائج!..
ويشد خالد على بقية الرماة فيجليهم.. وينصب من هناك على مؤخرة المسلمين فيبغتهم بما لم يحتسبوا، ويبلغ صياح كتيبة خالد مسامع قريش المهزومة، فإذا هي تريد لتعمل في المسلمين تقتيلاً وتجريحاً!.
وحدث ما لا بد من حدوثه في مثل هذا الخلل المباغت، وإذا المسلمون تزلزل بهم الأرض وتضطرب السبل فلا يدرون أين يذهبون!..
إنهم الساعة يقاتلون بدافع من حب الحياة وحدها، فلا يدرون من يقاتلون وكيف يقاتلون.. فيقتل بعضهم بعضاً وهم لا يعلمون..
وجاءت الطامة الكبرى إذ علت صيحة في الناس تقول: "إن محمداً قد قتل.."،
فتنهار أعصاب المسلمين وتمضي أعداد منهم تتخبط لا تدري أين تذهب بها مطاياها أو أقدامها.. وتتدافع قريش إلى ناحية الرسول - صلى الله عليه وسلم- يريد كل مشرك أن يكون له نصيب في قتله أو التمثيل بجثته!..، ويصيح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفلول المسلمين, وهو صامد في قلب الميدان كجبل أحد نفسه: "إليّ عباد الله.. إليّ عباد الله", وكان بحسب المؤمنين أن يصل صوت محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أسماعهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، كما يعود النور إلى المصباح بمجرد اتصال التيار.. وإذا ثلاثون من أبطالهم يعجلون لتلبية النداء, ثم يتحلقون حوله ليترسوا عليه بأجسامهم، فيذيقون قريشاً من لهيب الدفاع ما لم تجد مثله قط حتى في دفعة الهجوم الذي حطم صفوفها قبل النكسة..
كان عجب الصحابة بالغاً عندما رأوا (قزمان) في الصباح يشق جموع المسلمين حتى ينتهي إلى المركز الأول من مقدمتهم, بينما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصفوف استعداداً للمعركة، وما كان أحد يعرف الدافع الذي بعث (قزمان) على الالتحاق بالمؤمنين، بعد أن أبى الخروج معهم منذ غادروا المدينة، وهم فضلاً عن ذلك يعلمون أن (قزمان) هذا لم يكن إلا واحداً من منافقي المدينة الذين جمعهم بغض الرسول والإسلام, فاستجابوا لكبير مجرميهم عبد الله بن أبي يتآمرون على المسلمين، ويؤلفون في داخل المدينة القوة المخرّبة التي يستند إليها كل محارب لله ولرسوله!..
على أنهم لم يستبعدوا أن يكون (قزمان) قد انشرح صدره للإسلام في هذه اللحظات الحاسمة، كما حدث لمخيريق اليهودي وغيره، ممن كانوا لساعات خلت في صفوف الكائدين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فإذا هم الآن في طليعة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين!..
وزاد عجب المؤمنين ما رأوا من بلاء (قزمان) وأثره في تحطيم قوة الوثنية، فلم يتمالكوا أن ينقلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خبره, معجبين بهذه البطولة الرائعة، إنه أول من رمى بنفسه من صفوف المسلمين في غمرة المعركة، وهاهو ذا يرسل النبل كأنها الرماح، ثم هاهو يثخن في صفوف العدو فيقتل عدة من كبار أبطالهم، بينهم آخر حامل لراية الوثنية من بني عبد الدار، الذين تتابعوا في حمايتها واحداً بعد الآخر، حتى لم يبق منهم أحداً، فأقبل غلامهم (صؤاب) يرفعها فيقطع (قزمان) يمينه، فيضمها بيساره فيقطع يساره، فيضمها إلى صدره ببقية ذراعيه حتى سقط هو والراية..
فكانت الدائرة على الأعداء..
بيد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لا يزيده خبر قزمان إلا توكيداً لما سبق أن وصفه به من قبل: "إنه من أهل النار"..
وما كان للمؤمنين أن يراجعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما يقول، فهو أعلم بربه منهم، وأعلم بحقيقة قزمان من قزمان نفسه، ولكن هذا ما كان أيضاً ليمنعهم أن يتساءلوا في قرارة نفوسهم عن ذلك السر الذي يجعل قزمان من أهل النار.. وهو الذي يقدم كل هذا العون في سبيل الإسلام.
حقاً إنه لأمر مدهش ومحير!.
وصمد قزمان آخر النهار كما صمد أوله.. صمد يقاتل بعد الهزيمة، كما صمد في مقاتلة العدو قبلها، وما أن رآه مسلم في صموده هذا إلا أخذته الدهشة أن يكون مثل هذا البطل الجبار من أهل النار!..
وشاء الله أن يصاب قزمان، وأن تكون الإصابة بالغة.. فإذا هو يهوي في ميدان المعركة وقد أثبتته الجراح.. ويمر نفر من المسلمين ممن شهد بلاءه طوال النهار، فيقف عليه يهنئه بالشهادة ويبشره بالجنة.. ولكن قزمان لم يشأ أن يخدع القوم بأمر نفسه، فإذا هو يتمتم في إصرار عجيب: "والله ما قاتلت على دين.. وما قاتلت إلا حفاظاً على المدينة أن تقتحم قريش حرمها وتطأ سعفها.. ما قاتلت إلا على أحساب قومي.. لولا ذلك ما قاتلت..".
وينهض قزمان متهادياً يغالب الموت، ثم يأخذ سيفه فيجعل ذبابه في صدره، ثم يتكئ عليه حتى يخرج من ظهره..
وما هي إلا لحظات حتى يشيع خبر قزمان بين الصفوة المدافعين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فلا يشغلهم هول موقفهم عن استجلاء العبرة في مصير هذا الضال الذي خسر الدنيا ولم يربح الآخرة.. إنهم ليجدون في نهايته البشعة حافزاً جديداً يرفع حرارة إيمانهم إلى الدرجات العلى، ثم يدفع بهم إلى قمة التضحية، فلا يرون أعذب من الاستشهاد فداء لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-..
لقد كان يومهم هذا يوم أحد امتحاناً صارماً حافلاً بالدروس الربانية.. ففي هذا اليوم تعلموا أن معارك الإيمان لا تكسب إلا بالنظام والطاعة المطلقة لله ولرسوله، وأن على المؤمنين أن يسموا بأرواحهم فلا يشغلهم طلب الغنيمة عن رضوان الله.. فإذا انحرف ببعضهم هوى الدنيا عن هدف الإيمان كان ذلك عدواناً على سلامة المجموع، وتحطيماً لنظام الوحدة بين المؤمنين, كالشرارة الصغيرة تضرم الحريق الشامل المروع، ومن هنا تأتي السماء بتأديبها الرهيب.. تعم به البريء والخاطئ لا تستثني أحداً؛ لأنها تعتبر الجميع وحدة كاملة، كل جزء مسئول عن كل جزء..
وهاهو ذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ينال منه المشركون، فيكسر أنفه ورباعيته، وتشج جبهته، وتكلم شفته، وتدخل حلقتان من المغفر في وجنته، ثم يسقط في حفرة أعدها العدو للمسلمين.. كل ذلك يصيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذنب المسلمين الذين خالفوا عن أمره، فكان لا بد من تلقينهم الدرس الذي يتكافأ مع خطيئتهم.

كاد غبار المعركة يحجب شمس الضحى، فهي ترسل أشعتها مصبوغة بلون هذا التراب المتطاير من حوافر الخيول وأخفاف الإبل وأقدام المتحاربين من المشاة، ولو أتيح لك أن تطل من أعلى أحد على ذلك الميدان الرهيب لرأيت ما يملؤك رعباً، ثلاثة آلاف من شباب قريش لا تكاد الدنيا كلها تتسع لغرورهم واعتدادهم واندفاعهم، يحدوهم عطش الثأر لكرامة قد حطمتها في بدر سيوف الفئة المؤمنة من المستضعفين الذين يقودهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أقسموا بهبل وباللات والعزى ليغسلُنّ عار الهزيمة بدماء هؤلاء المسلمين الذين غرهم دينهم، ثم لا يعودون إلى مكة إلا بعد أن يردوا اعتبارها، فيعرف كل قاص ودان من عرب الجزيرة أن جبروت مكة ما زال في عنفوانه، إذا هو نطامن بعض لحظات حتى يخدع به الطامعون، فما يلبث أن يرجع أشد ما يكون قوة وكبرياء. ثلاثة آلاف فارس لا تكاد تجد فيهم راجلاً، إلا هؤلاء النسوة القرشيات، تقودهم هند زوج أبي سفيان خلال صفوف المقاتلين من الوثنيين يشددن من أعصابهم، ويوقدن حميتهم، ليشفوا صدورهن الموتورة بما ثكلت من أبناء وأخوة وآباء في معركة بدر، فكأنّ أناشيدهم ألغام تتفجر في الصدور، فتحيلها براكين من اللظى لا تخمد حتى تلتهم كل شيء!. وهناك على الجانب المقابل من سفح أحد ترتفع راية الرسول، وقد انتشر حولها المئات السبع من جنوده، في نظام لم تسيء إليه تحركات المعركة، على الرغم من النشاط العجيب الذي يغتلي في جبهة المسلمين. وكان ظاهراً مدى التفاوت العددي بين الكثرة الكافرة والقلة المؤمنة، ولكن الظاهر أيضاً فرق ما بين الدوافع العاملة هنا وهناك، فما كان المسلمون ليقاتلوا بالسيوف التي في أيديهم وحدها، وإنما كانوا يقاتلون بقوة العقيدة التي في صدورهم، فهم - على قلة عددهم - أشبه بالذرة لا يكاد يحس لها وجود، ولكنها تنطوي من الطاقة على ما يسير الجبال، وينسف المدن، ويصنع المعجزات !. ولقد خرج الرسول من المدينة بألف محارب، حتى إذا كان في الطريق إلى أحد بصر بكتيبة من اليهود قد أقبلت للانضمام إلى جيشه نصرة لحليفها ابن أبيّ رأس المنافقين في المدينة، ولكن الرسول لم يرض نصرتها وقال: ، وعادت كتيبة اليهود، ثم انسحب خلفها منافقوا المدينة بقيادة شيخهم ابن أبيّ هذا، محتجاً بالغضب لكرامة حلفائه!..‍ وما كان انسحابه في الواقع إلا إضعافاً لعزيمة المسلمين، وإيهاناً لقوتهم... وهكذا تقلص عدد المحاربين مع الرسول إلى سبعمائة مقاتل..، وكان ذلك باعث تخويف على مصير المسلمين، أن يلقوا بقوتهم القليلة تلك الكثرة الكاثرة من صناديد الوثنية وجباريها!.. ولكن المؤمنين مع رسول الله ما كانوا ليرتابوا في حكمة قائدهم المعصوم، فهم موقنون أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان ليرفض نصرة اليهود, ويخسر مساعدة المنافقين معهم، إلا إيثاراً لتطهير صفوفهم من عناصر الهزيمة والخيانة..، إنه خائض بالمؤمنين معركة الإسلام ضد الوثنية، وما وراء الوثنية من الظلم والطغيان، والعدوان، وما في الوثنية من حقد على الإنسانية وكفر بالحرية، وتأليب لقوى الشر، فهي إذن حرب الفكرة والعقيدة، فما ينبغي أن يكون في جنودها من لا يفنى وجوده اختياراً في هذه الفكرة وتلك العقيدة.. وهاهي ذي حكمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتجلى أبرز من الشمس منذ مطلع المعركة، إنّ هؤلاء المئات السبع ليقتحمون صفوف الآلاف الثلاثة بمثل عصف الإعصار المندفع يمر بالقصب فيقتلعه ويحطمه..، وكما تتماسك أجزاء الإعصار فتكون قوة الهباءة منه هي قوة الإعصار كله..، هكذا الفرد المؤمن من هذه القلة يضرب الضربة فيحس أنه يضربها بسبعمائة سيف، وسبعمائة ذراع، وسبعمائة قلب..، وبهذا وذاك تستحيل الكثرة قلة تافهة، وتتحول القلة كثرة لا نهاية لقوتها.. وسرعان ما سقط لواء المشركين فوق أشلاء عشرة من حماته - بني عبد الدار -..، فإذا جنود الكفر ينكشفون عن مواقعهم تحت ضغط الدفقة المؤمنة، وقد ملؤوا الساحة بجثث العشرات من زهرة شبابهم..، ولم يفتهم أن ينظروا - وهم في غمرة الهزيمة - إلى إلهِهِم الموقر يهوي على أم رأسه، وهو الذي حملوه من مكة على أضخم بعير، ليكون لهم عوناً ومسعفاً فإذا هم يغادرونه أحوج ما يكون إلى المعين المسعف..! وضع الرسول-صلى الله عليه وسلم- بنفسه خطة المعركة، وأول ما فعله أن وزّع خمسين من مهرة الرماة وراء جيشه في أعلى الشعب من أحد، وألَحّ عليهم بملازمة أماكنهم قائلاً: ثم رتب جيشه في صف منتظم، وتخيّر للمقدمة أفراداً من الذين يوزنون بالمئات، وأمر ألاّ يباشر قتال إلا بإذنه، ولما نشب العراك انطلق المسلمون يعملون في نظام عجيب من توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكأنهم حجر الرحى تدور حول قطبها، فهي تميل يمنة ويسرة، ولكنها لا تنفض عن دائرة القطب، ولعل مرد التماسك في هذا النظام ثقة الجيش جميعاً بحكمة القائد ووجوب الطاعة له، فليس هناك جندي واحد إلا وفي صدره يقين مطلق بأن مصير المعركة يتوقف على مدى انسجام الجنود في إرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومن هنا كانت قلوبهم متعلقة بإشارته، يديرها في الاتجاه الذي توحي به الحكمة.. وهكذا سارت المعركة في اتجاهها الطبيعي..، وفي غمرة الاندحار الهائل شعر قادة الوثنية بعجز آلهتهم عن الصمود في وجه هذا الدم الجديد الذي دفعه الإسلام في شرايين جنوده..، وأدركوا أنهم أمام القوة التي لا تقهر، ولا تثبت لها حمية الجاهلية، مهما تبلغ هذه الحمية من الاستخفاف بالموت..، إنها القوة التي مزّقت صلات العصبيات والمنافع الأرضية لتقيم على أنقاضها وشائج أخرى من قرابة العقيدة..، وبذلك أزالت سلطان الأسر وحواجز الأنساب، لتجعل من الأفراد المتنابذين المتباعدين أسرة واحدة في أخوة جديدة دونها كل روابط الأرض.. أجل لقد كان مستحيلاً لقوة من البشر أن تتماسك في وجه هذا السيل الجارف من القوى التي يحارب بها محمد -صلى الله عليه وسلم-..، اللهم إلا أن تنقلب هذه القوى على نفسها فيحطم بعضها بعضاً..، وهيهات..، ما دام زمام هذه النفوس الجديدة في يد هذا القائد الجديد.. ولكن لا..، لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!.. إن النفوس التي كانت إلى ساعة خلت تقاتل بأمر ربها، لإعلاء كلمته والدفاع عن رسالته، قد جذبت الدنيا أعنتها، فإذا هي تنصرف عن مطاردة العدو لتشغل بجمع الغنائم، فهيأت له بذلك فرصة الاستجمام، ثم أناحت له مجال العمل لتجميع فلوله.. ورأى خالد بن الوليد، وهو قائد ميمنة المشركين، ما عرض لجنود محمد -صلى الله عليه وسلم- من التشاغل، وكان يرصد الأمر عن كثب، يترقب ظهور مناسبة تمكنه من نجدة قومه، فإذا هو يدور من رواء الشعب ليفاجئ رماة المسلمين، وقد اختلفوا فيما بينهم، واندفع أكثرهم إلى معسكر قريش يشركون إخوانهم في الغنائم، فلم يبق منهم في مركز الدفاع إلا دون العشرة من المؤمنين، أبوا أن يفارقوا المكان الذي أمرهم رسول الله بالتزامه مهما تكن النتائج!.. ويشد خالد على بقية الرماة فيجليهم.. وينصب من هناك على مؤخرة المسلمين فيبغتهم بما لم يحتسبوا، ويبلغ صياح كتيبة خالد مسامع قريش المهزومة، فإذا هي تريد لتعمل في المسلمين تقتيلاً وتجريحاً!. وحدث ما لا بد من حدوثه في مثل هذا الخلل المباغت، وإذا المسلمون تزلزل بهم الأرض وتضطرب السبل فلا يدرون أين يذهبون!.. إنهم الساعة يقاتلون بدافع من حب الحياة وحدها، فلا يدرون من يقاتلون وكيف يقاتلون.. فيقتل بعضهم بعضاً وهم لا يعلمون.. وجاءت الطامة الكبرى إذ علت صيحة في الناس تقول: ، فتنهار أعصاب المسلمين وتمضي أعداد منهم تتخبط لا تدري أين تذهب بها مطاياها أو أقدامها.. وتتدافع قريش إلى ناحية الرسول - صلى الله عليه وسلم- يريد كل مشرك أن يكون له نصيب في قتله أو التمثيل بجثته!..، ويصيح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفلول المسلمين, وهو صامد في قلب الميدان كجبل أحد نفسه: , وكان بحسب المؤمنين أن يصل صوت محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أسماعهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، كما يعود النور إلى المصباح بمجرد اتصال التيار.. وإذا ثلاثون من أبطالهم يعجلون لتلبية النداء, ثم يتحلقون حوله ليترسوا عليه بأجسامهم، فيذيقون قريشاً من لهيب الدفاع ما لم تجد مثله قط حتى في دفعة الهجوم الذي حطم صفوفها قبل النكسة.. كان عجب الصحابة بالغاً عندما رأوا (قزمان) في الصباح يشق جموع المسلمين حتى ينتهي إلى المركز الأول من مقدمتهم, بينما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسوي الصفوف استعداداً للمعركة، وما كان أحد يعرف الدافع الذي بعث (قزمان) على الالتحاق بالمؤمنين، بعد أن أبى الخروج معهم منذ غادروا المدينة، وهم فضلاً عن ذلك يعلمون أن (قزمان) هذا لم يكن إلا واحداً من منافقي المدينة الذين جمعهم بغض الرسول والإسلام, فاستجابوا لكبير مجرميهم عبد الله بن أبي يتآمرون على المسلمين، ويؤلفون في داخل المدينة القوة المخرّبة التي يستند إليها كل محارب لله ولرسوله!.. على أنهم لم يستبعدوا أن يكون (قزمان) قد انشرح صدره للإسلام في هذه اللحظات الحاسمة، كما حدث لمخيريق اليهودي وغيره، ممن كانوا لساعات خلت في صفوف الكائدين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين، فإذا هم الآن في طليعة العاملين لنصرة الإسلام والمسلمين!.. وزاد عجب المؤمنين ما رأوا من بلاء (قزمان) وأثره في تحطيم قوة الوثنية، فلم يتمالكوا أن ينقلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خبره, معجبين بهذه البطولة الرائعة، إنه أول من رمى بنفسه من صفوف المسلمين في غمرة المعركة، وهاهو ذا يرسل النبل كأنها الرماح، ثم هاهو يثخن في صفوف العدو فيقتل عدة من كبار أبطالهم، بينهم آخر حامل لراية الوثنية من بني عبد الدار، الذين تتابعوا في حمايتها واحداً بعد الآخر، حتى لم يبق منهم أحداً، فأقبل غلامهم (صؤاب) يرفعها فيقطع (قزمان) يمينه، فيضمها بيساره فيقطع يساره، فيضمها إلى صدره ببقية ذراعيه حتى سقط هو والراية.. فكانت الدائرة على الأعداء.. بيد أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لا يزيده خبر قزمان إلا توكيداً لما سبق أن وصفه به من قبل: وما كان للمؤمنين أن يراجعوا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما يقول، فهو أعلم بربه منهم، وأعلم بحقيقة قزمان من قزمان نفسه، ولكن هذا ما كان أيضاً ليمنعهم أن يتساءلوا في قرارة نفوسهم عن ذلك السر الذي يجعل قزمان من أهل النار.. وهو الذي يقدم كل هذا العون في سبيل الإسلام. حقاً إنه لأمر مدهش ومحير!. وصمد قزمان آخر النهار كما صمد أوله.. صمد يقاتل بعد الهزيمة، كما صمد في مقاتلة العدو قبلها، وما أن رآه مسلم في صموده هذا إلا أخذته الدهشة أن يكون مثل هذا البطل الجبار من أهل النار!.. وشاء الله أن يصاب قزمان، وأن تكون الإصابة بالغة.. فإذا هو يهوي في ميدان المعركة وقد أثبتته الجراح.. ويمر نفر من المسلمين ممن شهد بلاءه طوال النهار، فيقف عليه يهنئه بالشهادة ويبشره بالجنة.. ولكن قزمان لم يشأ أن يخدع القوم بأمر نفسه، فإذا هو يتمتم في إصرار عجيب: وينهض قزمان متهادياً يغالب الموت، ثم يأخذ سيفه فيجعل ذبابه في صدره، ثم يتكئ عليه حتى يخرج من ظهره.. وما هي إلا لحظات حتى يشيع خبر قزمان بين الصفوة المدافعين عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فلا يشغلهم هول موقفهم عن استجلاء العبرة في مصير هذا الضال الذي خسر الدنيا ولم يربح الآخرة.. إنهم ليجدون في نهايته البشعة حافزاً جديداً يرفع حرارة إيمانهم إلى الدرجات العلى، ثم يدفع بهم إلى قمة التضحية، فلا يرون أعذب من الاستشهاد فداء لرسول الله-صلى الله عليه وسلم-.. لقد كان يومهم هذا يوم أحد امتحاناً صارماً حافلاً بالدروس الربانية.. ففي هذا اليوم تعلموا أن معارك الإيمان لا تكسب إلا بالنظام والطاعة المطلقة لله ولرسوله، وأن على المؤمنين أن يسموا بأرواحهم فلا يشغلهم طلب الغنيمة عن رضوان الله.. فإذا انحرف ببعضهم هوى الدنيا عن هدف الإيمان كان ذلك عدواناً على سلامة المجموع، وتحطيماً لنظام الوحدة بين المؤمنين, كالشرارة الصغيرة تضرم الحريق الشامل المروع، ومن هنا تأتي السماء بتأديبها الرهيب.. تعم به البريء والخاطئ لا تستثني أحداً؛ لأنها تعتبر الجميع وحدة كاملة، كل جزء مسئول عن كل جزء.. وهاهو ذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ينال منه المشركون، فيكسر أنفه ورباعيته، وتشج جبهته، وتكلم شفته، وتدخل حلقتان من المغفر في وجنته، ثم يسقط في حفرة أعدها العدو للمسلمين.. كل ذلك يصيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذنب المسلمين الذين خالفوا عن أمره، فكان لا بد من تلقينهم الدرس الذي يتكافأ مع خطيئتهم.

أما أهم دروس أحد هذه فهو ما تعلموه من مصير (قزمان)، ذلك المصير الذي أكد لهم من جديد أن أبواب الجنة لن تفتح إلا للمجاهدين في سبيل الله، العاملين لإعلاء كلمته، المتفانين في طاعة رسوله.. فلا الشجاعة، ولا الدفاع عن الحمى والنسب بنافع عند الله شيئاً، إذا لم يؤيد ذلك كله بالرغبة الخالصة في مرضاته..
حقاً لقد كان (قزمان) بطلاً رائعاً، ولكنها بطولة ضائعة لم تعرف المثل الأعلى.. الذي يقود إلى الجنة، لقد كان بطلاً من أهل النار.

إن هذا الدين ليس بظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة، وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، إنّ هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان، وهو منهج حركي واقعي يواجهه واقع الناس بوسائل مكافئة، يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان، ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله.

بتصرف يسير من اللجنة العلمية

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات