الخطيب وصناعة الأمة.. رؤية استراتيجية -الجزء الثاني

محمد الأمين مقراوي الوغليسي - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات

اقتباس

والتركيز على الخطباء ليس من باب القسوة عليهم، بل لأنهم شرف الامة وطليعتها؛ ولأنهم الفئة الوحيدة التي تستقبل جموع الناس كل أسبوع، في لقاءات ضخمة، تستمر ساعة على الأقل، وفي أجواء إيمانية تهيء المستمعين إلى تلقي الخطاب الواعي النافذ إلى أعماقهم؛ ولذلك يرجى من الخطيب الذي يقرأ هذا الكلام أن يعتبره خطابا نحو من يعتبرون بالفعل النجوم الهادية في المجتمع، وصنّاع الحياة.

 

 

 

المساجد بيوت الله، مصابيح الهدى في الأرض، لم يُعظم مكان في الأرض مثلما عظمت، ولم ينل محل في المعمورة قداسة وحرمة مثلما نالته، وجودها دلالة خير في الحياة، وبقاؤها علامة على استمرار الحياة، ونظرا لهذه الأهمية التي تلتصق بالمسجد، فإن الحقيقة الساطعة هي: أنّ مستوى أدائها يعكس مستوى الأمة ضعفا وقوةً، وقد كانت المساجد عبر تاريخ الأمة الإسلامية المكان الذي شهد صدور أبرز القرارات التاريخية التي تركت أثارها في الأمة، في عهد النبوة المباركة، ثم في عهد الخلافة الراشدة، التي مثلت أرقى نموذجي للحكم عبر التاريخ، ثم في عصر التابعين وتابعيهم، ذلك العصر الذي لا يزال يمثل الوهج العلمي في التاريخ الإسلامي.

 

دور المسجد في العهد النبوي:

 ظهرت المساجد في العهد النبوي الشريف، وأخذت دورها في رسم الحقوق والواجبات العامة والخاصة، حيث كانت كل القرارات التي عرفها المجتمع الإسلامي حينها تخرج من المسجد، وكان العلم يُطلب في المسجد، وكانت المشكلات الاجتماعية تُحل في المسجد، والمشكلات الاقتصادية للمجتمع تعالج هناك، والمشاكل الأمنية والعسكرية والرد على التهديدات –بلغة العصر-   كانت تعالج فيه، وتعقد لها ألوية السرايا والغزوات انطلاقا من سواريه وزواياه، ويُقضى في خلافات الناس بين محرابه وبابه، وهذا يدل على أهمية المسجد في بناء المجتمع الإسلامي، والأدوار التي تبوأها في العهد النبوي كانت في عصر لا يزال المسلمون فيه يسيرون وفق فقه الضعف، وهنا بيت القصيد، فقد كان بإمكان المسلمين وقتها تخصيص مكان لكل مجال، لكن هذا لم يحدث، ولم يكن ذلك اعتباطا، ولا يمكن أيضا ادعاء عدم معرفة المجتمع النبوي بقواعد العمران والتحضر، فالنصوص تشير إلى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر في المعاهدة المعروفة بصحيفة المدينة بترك عمرانها على حاله، ووضع دستورا للتعايش بين المسلمين وغيرهم، إذن كان لهذا المجتمع إلمام بشؤون التحضر والتنظيم، عكس ما يعتقد الكثير من المسلمين من أن هذا المجتمع المبارك كان يسير دون خطة، ودون تنظيم.

 

فانتظام أمور الدين والدنيا في المسجد في هذه المرحلة التي تميزت بظهور المؤشرات الكبرى للمجتمع الإسلامي بل وميلاده في مرحلة الضعف، دليل على أن للمسجد مكانة مركزية في حياة الأمة الإسلامية. وهذا ما يجب على من يتبوأ رسالة الخطابة استحضاره بعمق باستمرار، وترسيخه في وجدانه ووجدان المسلمين، بالشكل الذي يمكن الأمة من مجابهة دعوات إقصاء المساجد من إدارة شؤون الحياة.

 

المساجد منارات التغيير والعلم:

أما في عهد الخلفاء الراشدين فقد بقي المسجد محل طلب العلم، واستمر في أداء نفس الدور الذي كان عليه في العهد النبوي الزاهر، وتأنق وتألق فيه القضاء واشتهر بعدالته، وفيه ناقش مجتمع الخلافة الراشدة كبرى القرارات السياسية والعسكرية، والاجتماعية والاقتصادية، ومنه كانت تعقد ألوية الفتوحات المدروسة، التي غيّرت حال الدنيا إلى الأبد، وشكلت منعطفا تاريخيا كبيرا، لم تشهد الأرض مثله من قبل.

 

أمّا في عهد التابعين فقد كانت المساجد مراكز علمية حقيقية، يفوق نشاطها نشاط الجامعات العريقة في العالم، فلم يكن ينقطع فيها التدريس، وكانت حلق ودروس العلم موزعة في زواياها، متنوعة في مواضيعها، وكانت الرحلات العلمية مزدهرة آنذاك، منطلقها ومنتهاها المساجد.

 

كما أن عصر التدوين الذي شهدته الأمة الإسلامية وقتها كان يتم في المساجد، حيث كان طلاب العلم يجتمعون على موائد العلم، ويجردون أقلامهم لتدوين كل ما كان يلقى على أسماعهم، ثم ينسخونه، وينشرون ما نسخوا، بعد تدقيق وموافقات ومراجعات صارمة، والذي يدرس سيرة كبار طلبة الإمام  أبي حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، -رحمهم الله- يدرك أن نبوغهم وعبقريتهم فتقت في المساجد، يوم كانت منارات للعلم والأمة.

 

والسؤال الذي يحق للأمة أن تطرحه على الخطباء والعلماء، هو: لماذا ضعف دور المساجد في اكتشاف المواهب والعباقرة من أبناء المسلمين وصقلهم؟ لاشك أن ضعف الوعي بحقيقة دور المسجد، وإهمال البحث عن معانيه الحقيقية والسعي في إحيائها له دور كبير، وللخطباء دور في ذلك، وعليه فإن شرف إحياء هذه المعاني منوط بهم اليوم أكثر من  غيرهم، وطرق ذلك كثيرة. وأول خطوة هنا تبدأ من إدراك رسالتها التي تقررت في العصور السابقة.

 

المساجد والمسيرة النبوية:

ومما سبق نصل إلى نتيجة باهرة يستحسن بالخطباء في العالم الإسلامي أن يدركوها: وهي أن الدور الذي رسمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للمسجد في الإسلام كان واضحا في عقول ونفوس المسلمين في القرون الثلاثة المباركة، وهذا ما جعل رعايا الأمة الإسلامية ينعمون بالصلاح السياسي، والاجتماعي، والأخلاقي، والاقتصادي، والأمني خلال هذه القرون، وخلال أغلب فترات التاريخ الإسلامي. وهنا على الخطيب المتبصر في البلاد الإسلامية وفي غيرها من ديار الغربة أن يبذل جهده للارتباط بهذا التسلسل المبارك، وأن يتفقد موضعه من هذه السلسلة، فإن كان ارتباطه بها ضعيفا قوّاه، وإن كان منقطعا وصله، حتى يكون في الموضع الصحيح، وحتى يؤدي دوره وفق المقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية.

 

صلاح المجتمع وعلاقته بالمسجد:

فالصلاح العام الذي شهدته المجتمعات الإسلامية كان نتيجة منطقية لحضور المسجد في الحياة العامة، فقد كان المسجد من خلال الأدوار المتنوعة التي تصدى لها الخطباء والعلماء يمثل الضمانة الكبرى التي حمت الناس من السقوط في مشكلة الانفصام عن هويتهم، وغياب هذا الدور اليوم هو الذي جعل المسلم يسقط في فخ العلمانية والليبيرالية، التي تقول: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، أي أن الله موجود في المساجد فقط، أما خارج المساجد فإن المسلم محكوم بمنظومات وضعية مضادة لرسالة الإسلام، ومضادة للمبادئ والأحكام التي يتعلمها المسلم في بيوت الله العامرة.

 

تناقضات المسلم بين المسجد والشارع:

وهذا ما يفسر اليوم الضعف السلوكي للمسلمين في حياتهم اليومية، فقد تجد المساجد تمتلئ عن آخرها كل جمعة، وفي الصلوات الجهرية، حتى يخيل للناظر أن المجتمع بخير تماما، لكن ومع السعي نحو استقصاء الواقع الإسلامي، نجد أن الصورة الواقعية تخالف الصورة المسجدية بشكل تام، فالمخالفات الحياتية في العمل، الأسواق، المنازل، المصانع والمعامل، المدارس والجامعات، في الطرقات وحركة المرور، في المستشفيات والمكتبات، هذه المخالفات الجسيمة التي تطبع حياتنا إنما تقع من هؤلاء الذين يرتادون المساجد وممن لا يرتادونه أيضا، إذن المسجد لم يعد يؤثر في المصلين بالصورة التي رسمها الإسلام، والإسلام صحيح وبريء من الخلل، ما يعني أن المشكلة الحقيقية تقع على عاتق من لم يستغلوا طاقاتهم في تحقيق رسالة المسجد.

 

الخطيب اليقظ وتحديات العلمانية:

إن الخطيب اليقظ، يدرك اليوم أن أخطر ما تواجهه المساجد هي: علمانية المسلم الاضطرارية والاختيارية، الاضطرارية نقصد بها تلك السلوكات التي يُضطر إليها المسلم في أغلب الدول المسلمة، كالعمل في وظائف لا تتيح له حتى قاعة للصلاة، أو الدراسة في أجواء غير صحية اجتماعيا وأخلاقيا، أو التوظف في شركات لا ترعى المقاصد الكبرى للإسلام، وهذه تحتاج لتظافر جهود الجميع، وحلّا جذريا.

 

أما الاختيارية فنقصد بها تلك السلوكات التي ما كان ينبغي أن تصدر عن مسلم يرتاد المساجد، ويستمع كل أسبوع إلى خطبة تعتبر توجيهاتٍ، وتحوي قائمة إرشادات تساعده على السير بخطى صحيحة فيما يستقدمه أيام، ومن ناحية أخرى تعتبر عملية مسح للماضي القريب للمسلم، وفرصة لتنبيه جهاز المحاسبة في ضميره. هاته السلوكات هي التي يمكن أن نقول بوضوح إن الخطباء لم يوفقوا توفيقا كبيرا في التصدي لها، مع الحرص على القول إن الشارع والإعلام والمنظومات الوضعية هي السبب، صحيح هذا، ولكن هذه المنظومات البشرية لم تكن لتتقدم إلا بعد أن فسحنا المجال لها، فهي تتمدد في الفراغات التي يتركها أهل الشأن من أهل الإسلام، والحقيقة التي يجب أن نعقلها هي: التذمر من الواقع، والتسخط من الجلبة التي يحدثها الفساد في يوميات الأمة لن يغير واقعاً، لهذا يمكن الحديث عن الواقع المتردي ووسائل التردي من باب معرفة الأسباب التي أفسدت المسلم، أما جعل هذه الأسباب سببا مباشرا أو غير مباشر في تبرير التقاعس الرسالي فإنها هذا مما لا يُعقل صدوره ممن يرتقى منبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، بل كان يفترض أن يكون هذا الواقع الخطير سببا في بذل الجهد والطاقة في تغييره.

 

والتركيز على الخطباء ليس من باب القسوة عليهم، بل لأنهم شرف الامة وطليعتها؛ ولأنهم الفئة الوحيدة التي تستقبل جموع الناس كل أسبوع، في لقاءات ضخمة، تستمر ساعة على الأقل، وفي أجواء إيمانية تهيء المستمعين إلى تلقي الخطاب الواعي النافذ إلى أعماقهم؛ ولذلك يرجى من الخطيب الذي يقرأ هذا الكلام أن يعتبره خطابا نحو من يعتبرون بالفعل النجوم الهادية في المجتمع، وصنّاع الحياة.

 

مكانة المسجد في القرن العشرين:

 إذا كانت المجتمعات الإسلامية السابقة تعتبر المسجد مصنع الإيمان والعلم والصلاح، فإن هذه النظرة تدهورت مع مرور الوقت، خاصة بعد حركة الاستعمار الصليبي التي شهدها العالم الإسلامي، حيث سادت بين عموم المسلمين نظرة قاصرة لحقيقة رسالة المسجد، واعتبارهم إياها مجرد أماكن للعبادة، وقد وصلت الضحالة الثقافية للمسلمين إلى عقود قليلة مضت إلى اعتبار المساجد أماكن خاصة بكبار السن، فالقصص التي كان يرويها الشباب في تركيا والمغرب العربي وآسيا الوسطى في ذلك الوقت تدل دلالة قاطعة على التدهور الرهيب الذي أصاب الوجدان العام للمسلمين، فقد كانت المساجد مهجورة من الشباب، بعد أن ساد الاعتقاد أن العبادة للعجزة ومن هرموا، وإذا دخل شاب المسجد قال له المسنون: "ماذا تفعل هنا؟ لازلت شابا، اذهب لتعش حياتك"، وهي قصص متواترة كثيرة، حتى أن الكثير من الشباب روى أنه هرب من المسجد في تلك الفترة بسبب الاستهزاء والنظرات الشائنة التي كانت تطاله، وفي عقود قليلة مضت كان الذهاب إلى المسجد في تركيا وسوريا وتونس والجزائر وليبيا والعراق مثلا يعد جريمة كبرى، والذي يحافظ على الصلاة مشكوك فيه، وهذا يدل مرة ثانية على أن مكانة المسجد في قلب الأمة قد عرف تدهورا خطيرا، بل إن هيبة الاسم قد كادت تزول بفعل الإعلام الحديث في العالم الإسلامي، الذي أصبح يسميها مؤسسات العبادة للأسف الشديد، مع أن الإطلاق القرآني ظل حاضرا في وجدان الأمة الإسلامية دائما من خلال اعتبارها بيوت الله تعالى.

 

ضعف المساجد وعلاقته بضعف الأمة:

 لم يشهد التاريخ الإسلامي فسادا في المجتمعات الإسلامية مثلما يشهده الآن، مع العلم أن الفقهاء والعلماء كانوا يركزون على مؤشر صلاح المجتمع بصورة عامة، فقد عرف علماء السياسة الشرعية الكثير من المخالفات التي التبس بها الحكم، لكن الصلاح العام كان هو الأساس، فمادام المجتمع صالحا والمساجد تؤدي دورها، فإن المجتمع الإسلامي لا يحتاج في نظرهم إلا إلى تثبيت هذا الصلاح ودعمه، وسد الثغرات، وهذا مؤشر هام ومقصد غاب عن أذهان الكثير من المشتغلين بالدعوة وعلى رأس هؤلاء خطباء المساجد؛ ولهذا فإن الخطيب الذي يحمل هم الدعوة والإصلاح مطالب اليوم باستحضار هذا المؤشر، والعمل به، ولو أن كل خطيب اعتبره وهو يؤدي دوره في حيه أو قريته أو بلدته؛ لكان الحال اليوم أحسن مما كان عليه بالأمس.

 

وهذا ما يجعل مسؤولية الخطيب أمام الأمة مسؤولية عظيمة في صناعة الصلاح العام، وأمانة ثقيلة سيحاسب عليها إن أهملها، وستكونه بابه نحو رضى الله سبحانه وتعالى إن أداها وفق ما يحبه ويرضاه.

 

وفي خاتمة هذه المقالة يحسن بنا التأكيد على النتيجة التالية: وعي السلف الصالح برسالة المسجد الوعي العميق  هذا هو الذي ارتقى بالوعي الجمعي للمسلمين وقتها، وجعل المسلم ينظر إلى المساجد على اعتبار أنها محور حياة المسلم، أو المكان الذي تصنع فيه الحياة، فكما كانت تحتل المساجد جغرافياً وسط القرية ووسط المدينة ووسط الحواضر والبوادي، كانت الفكرة التي تسكن وجدان المسلم هي أن المساجد مصدر الهداية في كل مجالات الحياة، هذه النظرة هي التي يشتكي المصلحون -من هذه الأمة – غيابها وضمورها، أي: ذبول الفكرة الإسلامية الكبرى التي كانت تعتبر المسجد القلب النابض للمجتمع، صحته تعني صحة أفراده، ومرضه يعني ضعف أداء مجموع أفراده.

 

وهذه النظرة الصحيحة عن دور المسجد وحقيقة رسالته، والتي كانت عند المسلم الأول تحتاج من الخطيب إعادة بعثها والتطرق إليها من خلال خطبه، وربط المسلمين بهذا المعنى الجليل، وكل الأمل معقود على طليعة الأمة الأفاضل خطباء المساجد في إعادة ارتباط المسلمين بالمساجد كما ارتبط به أسلافهم.. يتبع

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات