قحط القلوب

سامي بن محمد العمر
1440/01/24 - 2018/10/04 15:57PM

أما بعد:

ألا تعجبون؟ نبي يؤمر بالتقوى..

ومؤمن يؤمر بالإيمان؟ ومسلم يؤمر بالموت على الإسلام؟

ألا تقرؤون ((يا أيها النبي اتق الله)) ((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله)) ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون))

 

عباد الله:

يصاب بلد مسلم بالقحط والجدب وقلة الأمطار ونقص الثمار؛ فيهُب المسلمون نجدة لإخوانهم بما آتاهم الله من فضله حتى تصلح الأحوال برحمة ذي العز والجلال.

ولكن شيئاً -  أقرب لنا من كل قريب - يقحط .. ولا بواكي له!

إنه ليجدب .. ولا ساقي له،

إنه ليذبل .. ولا راعي له.

إنه ليئن .. ولا سامع له.

إنه ليمرض .. ولا معالج له.

إنه ليموت .. ولا متألم له ؟؟

 

قحط وجدب يعم مساحات شاسعة  مقفرة .. لم يفكر أصحابها أن يستسقوا لها، ولم يجل بخواطرهم أنها إن ذبلت.. ذبل معها كل حي، وإن ماتت مات معها كل شيء، وإن صلَحت صلَح معها كل شيء.

(قحط القلوب أو القلوب المجدبة) ديار مقفرة من الإيمان إلا قليلا، وثياب بالية من الذنوب إلا يسيرا.

عن عبد اللهِ بن عمرٍو، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الخَلقُ؛ فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ»([1]).

اللهم جدد الإيمان في قلوبنا.. ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

هل تأملت أخي:

منذ متى دعونا بتجديد الإيمان في قلوبنا؟

منذ متى استشعر أحدنا أن إيمانه قد يبلى في قلبه كالثوب المهترئ؟

وهل سأل الواحد منا نفسه: لماذا حصل له كل هذا؟؟

إن من معتقد أهل السنة والجماعة : أن الإيمان يزيد في القلب وينقص، وترى ذلك جلياً حين يلهو قلبك في الملاهي والمحرمات، ثم تزور القبور في تشييع جنازة.

إن لقلب المؤمن بين الموقفين لما بين السماء والأرض.. حياة وموت، جوع وشبع، ظمأ وريّ..

{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] ((ليزداد الذين آمنوا إيمانا)) {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [الأنفال: 2]

فلماذا يصرّ البعض على قحط قلبه، وجدب روحه، وقفر نفسه؟

لماذا لا نستسقي لقلوبنا من أمطار الرحمات، وفيوض العطايا الإلهيات؟

يقول ابن القيم رحمه الله:

"إن الله لما امتحن عبده بالشهوات؛ اقتضت رحمته به أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات، ..(يعني: الصلوات الخمس)

فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول وأغناه؛ لأن القلب كان قبلُ.. قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُرْي والسقم ما ناله، فأصدره من عنده وقد أغناه عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه.

ولمّا كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا مَن بيده غيثُ القلوب وسَقْيها، مستمطرًا سحائبَ رحمته لئلا ييبَسَ ما أنبتته من كلأ الإيمان وعُشْبه وثمارِه، ...

والقلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جَدْبه وقَحْطَه وضرورته إلى سقيا رحمته وغيثِ بِرِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته.

فإن الغفلة التي تنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفلَ ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلةُ واستحكمتْ صارتْ أرضُه ميتةً، وسَنَتُه جرداءَ يابسةً، وحريقُ الشهوات فيها من كل جانبٍ كالسمائم"([2]). وهي الرياح الحارة.

 

أيها المؤمنون:

قد نستسقي المطر لبلادنا بعد أيام.. ولكننا يجب أن نفهم: أن سقيا البلاد والشعوب، لا تكون قبل سقي النفوس والقلوب ((إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).

وإن الناظر في انجراف نفسه ومن حوله من كبار وصغار .. خلف ملهيات الدنيا ولذائذها المحرمة .. ليرى غفلة شديدة من نفسه وممن حوله عن إنقاذ سر السعادة والنجاة ، والفلاح والصلاح:

يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب) متفق عليه.

ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إن من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه، وما نقص معه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد الإيمان أم ينقص وأن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه"؟ [شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1710].

عباد الله:

 الإيمان جمالٌ للقلب وزينةٌ، كما قال الله تعالى:[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] الحجرات: 7. وهو دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" .

ومن رام كمال الزينة لقلبه، وتمام السعادة لروحه وجسده؛ فليرو القلوب المجدبة بماء القرآن، وليقبل به على معانيه، وليتدبر ما يراد منه وما نزل لأجله، وليأخذ من كل آية نصيبه منها، ولينزلها على أمراض قلبه، حتى يصيب الدواء الداء فيبرأ القلب بإذن الله، وتعود له الحياة.

وصدق ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال: " لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام ربنا".

اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، وأنقذنا برحمتك من داء الغفلة وبلاء المعصية .. واستغفروا ربكم إنه غفور رحيم..

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإن السحب التي تحيي القلوب كثيرة، وهي سريعة الهطول لمن استسقى ربه بصدق وعزم ويقين،

فابحثوا عن نجاة قلوبكم من الموت:

في التفكر في عظمة الله وقدرته، وفي أسمائه وصفاته، وفي ملء أوقاتكم بذكره وشكره، وعمارتها بطاعته وعبادته، والمسارعة إلى وجوه البر، مع النظر في حسن الخاتمة وسوئها، وتذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، وتذكر التفاوت بين الناس في منازل الآخرة، وكثرة الانكسار والذل بين يدي الله بالبكاء والدعاء، وإظهار الفاقة إليه، مع الثقة به وحسن الظن فيه، واستشعار تفاهة الدنيا وقصر الأمل فيها، وكثرة محاسبة النفس، على التفريط في الطاعات والانهماك في المحرمات.. وهلم جرا من أسباب كثيرة .. فيها سعادة القلب ونجاته، وبقاء إيمانه وثباتُه،

وحينها يزول عجبك .. من نبي يؤمر بالتقوى.. ومؤمن يؤمر بالإيمان؟ ومسلم يؤمر بالموت على الإسلام؟

إنها رحمة الله بتلك القلوب حتى لا يجف فيها ماء الحياة وينطفئ منها نور الإيمان..

 

 

 

([1]) الطبراني المعجم الكبير جـ 13، 14 (ص: 69)( 14668)

([2]) الكلام على مسألة السماع (1/ 87)

المشاهدات 1749 | التعليقات 0