المجاهرة بالمعاصي: استهانة بالله وترويج لها بين خلقه – خطب مختارة

الفريق العلمي
1440/01/16 - 2018/09/26 12:44PM

إن النفوس جبلت على حب الهوى وفعل ما يلبي رغباتها وكره القيود التي تردعها أو الحواجز التي تمنعها، والله -تعالى- قد امتن عليها بإرشادها إلى ما يصلحها ويزكيها ويسمو بها؛ فحثها على فعل كل مليح وترك كل قبيح، ثم إنه سبحانه تجاوز عن ما تقع فيه من الصغائر إن تابت إليه واستغفرته من ذلك اللمم؛ لكنه حذر عباده من الإصرار على معصيته وشنع على المجاهرين بها؛ بل وتوعدهم بالعذاب الأليم ونار الجحيم.

 

ولعلي أجد أن أهم ما ابتدئ به هذه المقدمة: التعريف بالمجاهرة متبوعا بحقيقة المعاصي؛ فالمجاهرة: إبداء المخفي وإظهار المستتر، والمجاهرة بالشيء: إبداؤه وإظهاره، وعدم الاختفاء به، والخلاصة أن حقيقة المجاهرة ترجع إلى معنيين:

الأول: هو أن يفعل الإنسان الشيء أمام الناس من غير اختفاء أو تستر؛ فيأتي ما يأتي من العمل على مرأى من الناس أو مسمع منهم، وعلى حضور وشهود ممن حوله، وهذا أعلى ما يكون من صور المجاهرة التي يُظهر فيها الإنسان عمله.

 

والمعنى الثاني: إخبار الإنسان بما يكون من عمله الخفي؛ بمعنى أن يعمل شيئًا في الخفاء، وفي الستر، ثم يأتي يخبر به.

 

وأما المعاصي: فهي مخالفة ما جاء به رسول الل ه-عليه الصلاة والسلام- من ربه -عز وجل-، وهذا لا يقتصر على ذنب بعينه أو على مخالفة بعينها، لكنها ترجع إلى أمرين هما:

ترك الواجبات؛ فالذي ترك الصلوات قد وقع في معصية، والذي ترك الزكاة أو الصوم أو الحج مع القدرة عليه وقع في معصية؛ هذا فيما يتعلق بأصول وأركان الإسلام، وهكذا ما دونها من الفرائض.

 

الثاني: فمن الشرك والكفر ومرورا بالنفاق وصفاته وحتى ارتكاب المحرمات والمنهيات؛ وقع في واحدة من هذه ومثيلاتها وما دونها فقد وقع في معصية؛ لأنه فعل ما نهي عنه.

 

والخلاصة لمعنى المجاهرة بالمعاصي: هي فعل المخالفة أمام الناس، أو فعلها في الستر والخفاء ثم إخبار الناس بها بعد ستر الله عليك.

 

وقد جاء التحذير من المجاهرة بالمعاصي في نصوص واضحة جلية وأكدت أنها من إظهار السوء وإشاعة الفساد في الأرض، وأنها مما يوجب الله عليه عقوبات عامة وخاصة؛ عقوبات خاصة على المجاهر نفسه، وعقوبات عامة عندما انتشارها بين الأمة، دون تداع لكف هذا الشر بالائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، والله -تعالى- قد ذكر في كتابه العزيز لعن بني إسرائيل، والسبب أنهم كما قال -سبحانه-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78-79].

فهذان نبيان كريمان لُعن بنو إسرائيل على لسانهما؛ داود من أكبر وأشرف أنبياء بني إسرائيل، وعيسى من أولي العزم من الرسل، ثم بيَّن الله -تعالى- سبب استحقاق بني إسرائيل للعن؛ (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المائدة: 78 - 79]، وقال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)[النساء: 148].

 

ومما يدل على خطورة المجاهرة؛ سواء كانت من فرد أو كانت من مجموعة ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل أمتي معافى" والأمة هنا هي أمة الإجابة؛ يعني كل أمتي يدرك عفو الله -عز وجل- المشتمل على حماية العبد في دينه ودنياه، وتجاوز الله عن قصوره وتقصيره في شأنه الخاص وفي شأنه العام، "كل أمتي معافى"، ثم استثنى -النبي صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: "إلا المجاهرين"، ثم بيَّن صورة من صور المجاهرة، وهي لم ترد في زمنه -صلوات الله وسلامه عليه-، قال: "وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه"، بات يستره ربه ويخفي سوأته وعيبه ومعصيته عن الناس، لكنه لم يرض بستر الله -عز وجل- عليه، بل يصبح فيكشف عن ذلك بالإخبار عن نفسه بما جرى من سيئ ما قام به، وهذا لا يلزم أن يكون بالصورة التي ذكر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر صورة من صور المجاهرة؛ وهي أن يفعل المعصية بالليل، ثم يأتي يخبر بها في النهار.

 

قال ابن حجر -رحمه الله-: "والمجاهِر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستَر الله عليه، فيحدِّث بها، أما (المجاهرون) في الحديث الشريف يحتمل أن يكون بمعنى مَن جَهَر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يُجاهِر بعضهم بعضًا بالتحدُّث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكِّد المعنى الأول" (فتح الباري).

ومن ذلك: ما يفعله كثير من الناس عندما يسرف على نفسه في معصية في زمن من أزمان عمره، ويأتي يذكرها على وجه الإخبار بسيئ العمل؛ سواء كان ذلك في أسفاره أو بعد توبته أو عند لقائه بأقرانه أو يكتبها وينشرها للغير.

 

وللمجاهرة بالعاصي -أيها المسلمون- صور ومظاهر عديدة، سنذكر أمثلة عليها في ما سيأتي:

فالذي يشرب الخمر أمام الناس؛ هذا مجاهر بالمعصية؛ ليس بالإخبار عنها، إنما بفعلها أمام الخلق.

 

ترك فرض من الفرائض مستمر في تركها؛ كم لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ويمتنع من ذلك أمام الناس، ولا يتورع، ولا يحتاط في ألا يعلم الناس عنه؛ هذا مجاهر بالمعصية.

 

والذي يفعل المعصية في الستر؛ فيشرب الحشيش مثلًا، ثم يأتي فيتحدث بين أصحابه فيقول تعاطيت الحشيش؛ أو فعلت وفعلت فيعد ما فعله من الذنوب والمعاصي ليتباهى بها بين أصحابه ورفقائه.

 

وقد حرم الإسلام المجاهرة ولا فرق فيها بين التلميح والتصريح، وهي على درجات من حيث صورة المجاهرة، ومن حيث ما يترتب عليها؛ ففعل المعصية أمام الناس أعظم وزرًا في المجاهرة من الإخبار بها، والإخبار بها تصريحًا أعظم وإثمًا من الإخبار بها تلميحًا؛ لكن الجميع يندرج فيما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين".

 

لذلك يجب على المؤمن أن يتقي الله، وأن يحذر المعاصي ابتداءً؛ فإذا وقع في شيء منها فليستتر بستر الله، وليتذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك الرجل الذي جاءه، كما في الصحيحين، عند ما قال للنبي الكريم -صلوات ربي وسلامه عليه-: "يا رسول الله، إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها دون أن أمسها؛ يعني: ضمَّها وقبَّلها، ولكن لم يجامعها، فاقض فيَّ ما شئت؛ فردَّ عليه عمر -رضي الله تعالى عنه- وهو بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لقد سترك الله لو سترت نفسك"!!

 

واعلموا -أيها المؤمنون- أن الله -تعالى- لم يحذر من المجاهرة بالمعاصي إلا لما تلحقه بأصحابها من آثار مخيفة وعواقب مؤلمة في الدنيا والآخرة؛ فمن تلك الآثار والعواقب، ما يلي:

أنها تضعف مقام تعظيم الله -عز وجل- في قلب صاحبها: قال تعالى عن السبب الذي جعل العصاة يجاهرون بأفعالهم القبيحة وأعمالهم الشنيعة: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 74]، وقال: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13].

 

ومن آثارها حرمان العافية: قال -عليه الصلاة والسلام-: "كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربّه، ثمّ يصبح فيقول: يا فلان إنّي عملت البارحة كذا وكذا" (رواه البخاري ومسلم).

 

تعجيل العذاب وحلول النقم: عن أمير المؤمنين -رضي الله عنه- قال: "مجاهرة الله بالمعاصي تعجّل النقم".

 

كما أن من آثار المجاهرة بالمعاصي دعوة لإشاعة الفاحشة بين الناس: والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النور: 19].

 

أيها المسلمون: لنتق الله -تعالى- ونملأ قلوبنا بتعظيمه ومحبته، ولنحذر من مخالفة أوامره وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وعلينا أن نفر من الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها، كما يجب على من وقع في زلة أن يستتر بستر الله وأن يستغفره ويتوب إليه، وأن لا يجاهر بها بين عباد الله فيجزى بالجزاء الأليم والحساب العسير ويشقى في الدنيا والمصير.

 

خطباؤنا الأكارم: وضعنا بين أيديكم مقدمة عن المجاهرة بالمعاصي وبعض صورها وخطرها وآثارها على الفرد والأمة، فذكروا بها من كان له قلب يرجو الله واليوم الآخر ليقلع عن المعاصي وينزجر من المجاهرة بها؛ سائلين الله -تعالى- أن يعزنا بطاعته وأن لا يذلنا بمعصيته، وأن يغفر لنا ويرحمنا؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 المجاهرة بالذنوب ونشر الفواحش- الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/181000

خطورة إشاعة المحرمات - الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/172442

خطر المجاهرة بالمعاصي- الشيخ عبدالله بن صالح القصير؟

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/172667

بلاء المجاهرين - الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العليان

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/181725

كل أمتي معافى إلا المجاهرين - الشيخ أحمد المزهود الغامدي

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/179782

المجاهرة بالمعاصي - الشيخ مراد كرامة سعيد باخريصة

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/175977

إلا المجاهرين - الشيخ صالح بن محمد الجبري

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/180781

نعمة ستر الله على العبد وذم المجاهرة - الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/180589

 المجاهرة بالمعاصي سبب للعقوبات المهلكة- الشيخ عبدالمحسن القاضي

https://khutabaa.com/khutabaa-section/corncr-speeches/185354

المشاهدات 2845 | التعليقات 0