لذة العبادة

ناصر محمد الأحمد
1439/12/11 - 2018/08/22 05:14AM

لذة العبادة

13/12/1439ه

د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله ..

أما بعد: أخي المسلم: أريد أن أسألك سؤالاً ربما لم تُسأل من قبل!.

هل تشعر بلذة العبادة؟. لاشك أنك تقوم في كل يوم وليلة بعدد من العبادات، لكن هل تشعر باللذة وأنت تقوم بهذه العبادات؟. أم أنك تفعلها بشكل روتيني لا تستشعرها في أحايين كثيرة؟.

أيها المسلمون: إن الله تبارك وتعالى لم يخلق الخلق عبثاً ولم يتركهم سدىً وهملاً، بل خلقهم لغاية عظيمة: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) (الذاريات : 56)، وقد تفضل سبحانه وتعالى على عباده، ومنحهم لذة في العبادة لا تضاهيها لذة من لذائذ الدنيا الفانية. وهذه اللذة تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإيمان وضعفه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) (النحل : 97). وهذه الراحة والطمأنينة والسعادة تكون بعبادة الله وحده، وتعلُق القلب به، ودوام ذكره. قال ابن القيم رحمه الله: "والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة". انتهى ..

وأما من أعرض عن هدي الله، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعيش عيشة القلق والضنك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) (طه : 124). لا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيّق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يَخلُص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشكٍ، فلا يزال في ريبه يتردد، وهذا من ضنك المعيشة.

فكيف يحصل العبد على لذة العبادة؟ وما صور ذلك؟ وما موانعه؟.

ثمة أسباب للحصول على لذة العبادة، منها:

أولاً: مجاهدة النفس على العبادة وتعويدها، مع التدرج في ذلك: قال ابن القيم رحمه الله: "السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل، لعدم أُنْس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت الصلاة قرة عين له، وقوة ولذة".

وقال ثابت البناني رحمه الله: "كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة". وقال أبو يزيد رحمه الله: "سُقْتُ نفسي إلى الله وهي تبكي، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك". قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين) (العنكبوت : 69). فإذا جاهد العبد نفسه هداه الله وسهل له الوصول إلى ما جاهد نفسه إليه.

ثانياً: تحصل على لذة العبادة بالإكثار من النوافل والتنويع فيها على اختلاف صفاتها وأحوالها: حتى لا تمل النفس، وحتى تُقبل ولا تدبر، فتارة نوافل الصلاة، وتارة نوافل الصوم، وتارة نوافل الصدقة. فإن ذلك مما يورث محبة الله كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه أن الله يقول: "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه". أخرجه البخاري ومسلم.

فمن اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم بالنوافل قرّبه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه، حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة، وعندها يشعر بلذة العبادة.

ثالثاً: تحصل على لذة العبادة بالتأمل في سير الصالحين: إن النظر وقراءة تراجم وسير السلف الصالح مما يجدد الإيمان في القلب، فهم رحمهم الله قد وصلوا في كل ميدان غايته، ولهم في أبواب العبادات من الأمثلة التي تحار فيها عقولنا. فبالتأمل فيها تنشيط لهممنا، وتحريك لضعفنا، واقتداءٌ بمن أُمرنا بالاقتداء بهم.

رابعاً: تحصل على لذة العبادة بقراءة القرآن وتدبر معانيه، والوقوف عند عجائبه: فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقاً لما أصابها من قسوة، وتذكيراً لما اعتراها من غفلة، مع ما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقَيْهم: أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه، لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أُنْس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان، وخصوصاً تدبُر ما يتلى في الصلوات.

خامساً: تحصل على لذة العبادة بالخلوة بالله تعالى: بحيث يتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليله أو نهاره يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه يبثه شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه.

فكم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليات على القلوب؟ قيل لمالك بن مغفل وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ قال: أو يستوحش مع الله أحد؟. وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول: "من لم تقر عينه بك فلا قَرّت عينه، ومن لم يأنس بك فلا أَنِس".

سادساً: تحصل على لذة العبادة بالبعد عن الذنوب والمعاصي: فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وكم من ذنبٍ حَرم قيام الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب بن الورد حين سئل: "أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا، ولا من همَّ".

قال الامام ابن الجوزي رحمه الله: "فرب شخص أطلق بصره فحرمه الله اعتبار بصيرته، أو لسانه فحُرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه، فأظلم سره وحُرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك". انتهى ..

فالذنوب داء القلوب. قال يحيى بن معاذ : "سَقمُ الجسد بالأوجاع، وسَقمُ القلوب بالذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، فكذلك القلب لا يجد حلاوة العبادة مع الذنوب".

سابعاً : تحصل على لذة العبادة بالتقلل من المباحات: قال أحمد بن حرب رحمه الله: "عبدتُ الله خمسين سنة فما وجدت حلاوة العبادة حتى تركت ثلاثة أشياء: تركت رضا الناس حتى قدرتُ أتكلم بالحق، وتركت صحبة الفاسقين حتى وجدت صحبة الصالحين، وتركت حلاوة الدنيا حتى وجدت حلاوة الأخرى".

أيها المسلمون: للإيمان لذة: لا تعدلها لذة من لذائذ الدنيا الفانية، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان". أخرجه البخاري ومسلم. فالإيمان له حلاوة وطعم يُذاق بالقلوب كما تُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم، فإن الإيمان هو غذاء القلوب وقوتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا مرض لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان إذا سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وجد حلاوة الإيمان حينئذٍ، ومتى مرض لم يجد حلاوة الإيمان، بل يستحلي ما فيه هلاكه من الأهواء والمعاصي.

وللصلاة لذة: وجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجُعلت قرة عيني في الصلاة". أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد لصلاته لذة وراحة حيث كان يقول لبلال: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة". رواه أبو داود. ولم يقل أرحنا منها كما هو شأن بعضنا.

ولقيام الليل لذة: يروى في الأثر عن نافع بن عمر قال: قالت أم عمر بن المنكدر لعمر: إني أشتهي أن أراك نائماً؟ فقال: يا أماه! والله! إن الليل ليرد عليّ فيهولني، فينقضي عني وما قضيت منه أربي. وقال بعض السلف: "إني لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشي، وتقرُ به عيني من مناجاة منْ أحب، وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك".

ولقراءة القرآن لذة: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله". وقال ابن القيم رحمه الله: "وكيف يشبع المحب من كلام من هو غاية مطلوبه .. إلى أن قال: فلمحبي القرآن من الوجد والذوق واللذة والحلاوة والسرور أضعاف ما لمحبي السماع الشيطاني". وقال ابن رجب رحمه الله: "لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم فهو لذة قلوبهم وغاية مطلوبهم".

وللإنفاق في سبيل الله لذة: وجد هذه اللذة أبو طلحة رضي الله عنه ولما وجدها أنفق أعز ماله لديه في سبيل الله كما في البخاري ومسلم.

ووجد هذه اللذة أبو الدحداح رضي الله عنه فجعل مزرعته كلها لله.

ولطلب العلم لذة: قال الشاطبي رحمه الله: "في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة، إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جُبلت عليها النفوس، وميلت إليها القلوب".

قال ابن الجوزي رحمه الله حاكياً عن نفسه: "ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو أحلى عندي من العسل في سبيل ما أطلب وأرجو، وكنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، ثم أذهب به في طلب الحديث، وأقعد عند نهر عيسى ثم آكل هذا الرغيف وأشرب الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها وعيْن همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم".

وأنشد بعضُهم شعراً رائعاً في هذا المقام فقال:

لمحبرةٌ تجالسني نهاري                    أحبُ إليّ من أُنْس الصديق

ورزمةُ كاغدٍ في البيت عندي            أحبُ إليّ من عدل الدقيق

ولطمةُ عالمٍ في الخد مني                 ألذُ لديّ من شرب الرحيق

 

بارك الله ..

الخطبة الثانية :

الحمد لله ..

أما بعد: أيها المسلمون: هناك موانع تمنع العبد لذة العبادة. من هذه الموانع:

أولاً: المعاصي والذنوب: يذكر ابن الجوزي رحمه الله أن: بعض أحبار بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟. فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: لا، ولا من همّ. فرُبّ شخص أطلق بصره فحُرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحُرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعم فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك.

ثانياً: ومن موانع لذة العبادة كثرة مخالطة الناس: فذلك مما يفقد العبد لذة العبادة، فكثرة المخالطة داء، والتوسط في ذلك هو الحق والعدل.

ثالثاً: ومن موانع لذة العبادة تحوُل العبادات إلى عادات: فإذا تحولت العبادة إلى عادة فُقدت لذة العبادة وحلاوتها، كما هو مشاهد.

رابعاً: ومن موانع لذة العبادة النفاق: فإذا كان في القلب نوع من النفاق، فإن ذلك يكون ماحقاً ومانعاً لحصول لذة العبادة.

أخي المسلم: إذا أردت أن تحصل على لذة العبادة، وتتفيأ ظلالها، وتقطف ثمارها، وتنعم بخيراتها، فعليك بعمل الأسباب الجالبة لذلك وقد سمعتها، وعليك أن تبتعد عن صوارفها وموانعها.

وفقك الله لما يحبه ويرضاه ..

 

اللهم ..

المشاهدات 2167 | التعليقات 0