السفر أحكام وآداب

د. منصور الصقعوب
1439/10/14 - 2018/06/28 19:43PM

 

إن الحمد لله نحمده سبحانه ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فالتقوى جماع كل خير، وبها النجاة من كل شر والفوز والربح يوم الحشر فاتقوا الله أيها المؤمنون.

يريد المرء أن يؤتى مناه               ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي             وتقوى الله أفضل ما استفادا

معاشر المسلمين: تأتي الإجازات, وتحتر الأجواء, فتُشد الرحال آمّة أصقاع الأرض قريباً وبعيداً, شرقاً وغرباً, فرادى وعوائل, فماذا يعني لنا السفر؟ وكيف نظر الإسلام إلى السفر.

السفر يا كرام فرصةٌ للسيح في البسيطة والتفكرِ في عظيم صنع رب الخليقة وكيف أبدع خلقه وأحسن صنعه .

السفر قد يكون فيه أنسٌ للنفس, وراحةٌ للبال, وتغيير لنمط الحياة المعتادة, وتنفيس عن عناء العمل.

يرى المرء في السفر من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله ويدعوه لشكر نعمه, وقد قيل: لا يُصلح النفوسَ إذا كانت مدبرةً إلا التنقلَ من حال إلى حال, والأولُ جمع فوائد الأسفار حينما قال.

تغرب عن الاوطان في طلب العلا  وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج هم واكتساب معيشة              وعلم وآداب وصحبة ماجد

ولأجل ذلك: فقد أفاض العلماء في ذكر أحكام السفر، وسافر الأولون, ولكن لم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه كان يسافر للنزهة والفرجة إلا في أحوال ضيقه, وما ذاك إلا لأسباب منها مشقة السفر التي تجعله عذاباً عندهم, وحكى نبينا ج ذلك فقال «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله» إنما سافروا للعلم, حتى رحل جابر وغيره في طلب حديث واحد, وسافر كثيرون في طلب العلم وسماع الحديث ألاف الأميال, سافروا للجهاد حتى ضربوا أصقاع المعمورة, سافروا للتعبد في مكة والمدينة, وكلها أسفار مشروعة, ويستلذ العناء فيها لأنها عبادة.

واليوم: وقد صارت الأسفار متعةً تُطلب وهدفاً يُرغب ومطلباً تُدفع لأجله الأموال, وتُقضى في سبيل الاستمتاع به الأوقات, وتيسرت السبل فكثرت الأسفار، كان مما يجدر بنا أن نذكّر أنفسنا بسؤالين في مقتبل كل سفر.

أجل فحينما تُعِدَّ الركائب سل نفسك أيها الفاضل لماذا السفر, وإلى أين السفر؟ سؤلان تختلف أحوال المسافرين تجاهها ويترتب عليها أن يكون المرء في سفره مأجوراً أو مأزوراً 

لماذا تسافر؟ ماذا في نيتك وأنت تُعدُّ العدة ؟، الجُلّ يسافر, لكن الناس يتباينون في نواياهم في أسفارهم, وفرق بين امريءٍ خرج لسفره طالباً للمعصية, وآخرَ مضى طالباً للطاعة أو للفرجة والتأمل والاعتبار.

ولأجل هذا فليكن في نيتك وقصدِك أن تخرج لكي تُجِمَّ نفسك بالمباح لِتقْوى بعده على الطاعة, وليكن في نيتك أن تخرج للتفكر في البسيطة والدعوة إلى الله ولو بأخلاقك وفعالك .

ليكن في نيتك وأنت تذهب بأهلك وأولادك أن تُدخِلَ السرورَ عليهم وتحتسبَ الأجر في ذلك تقرباً إلى الله .

وبمثل هذه النوايا الحسنة يباركْ لك في سفرك ويُخلِفُ الله ما تنفقه من مال, وما تمضيه من وقت, ويحفظْك الله بإذنه من كل شر وسوء, وكم بين من يسافر بهذا القصد, وبين من يسافر لا بقصد ولا احتساب ولا استشعار.

أيها المبارك: وبعد ذلك إلى أين تسافر؟ ولكم تباين الناس في الإجابة على هذا السؤال, ما بين مشرّق ومغرب, ومن آمٍّ سفراً مشروعاً, أو سفراً ممنوعاً.

وليس اليوم بي منعك من مكانٍ ولكنني أهمس من ذهنك وأنت ترتب سفرك لأقول لك: قبل أن تخطو إلى سفر احرص على أن يكون سفرك مقرباً إلى الله, اذكر قول محمد بن الفضيل: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله.

سافِر إلى أي جهة شئت واظعن حيثما أردت, ولكن لا تنسى الشهود الأربعة الذي يشهدون عليك أينما كنت بالخير أو بالشر تعلمه.

الأرض التي ستحدّث يوم القيامة أخبارَها وستخبر بما عُمِل عليها من الخير والشر.

والملائكة الذين يكتبون كل قول أو فعل من الحسنات والسيئات.

والجوارح التي لن يقدر المرء أن يعمل الخير أو الشر إلا بها الله سبحانه

والرقيب جل شأنه الذي لا تخفى عليه خافية والسر عنده علانية يرى العبادَ ويسمع سرهم ونجواهم فأين يغيب المرء عن هؤلاء الشهود, وإذا كنت في برٍ او جوٍ أو بحرٍ, في قريب أو بعيد, في ليل أو نهار فتذكر حينها أنك تحت رقابة الله الذي أمرك ونهاك, ولا يخفى عليه منك الخوافي.

ومتى ما استشعرنا يا أيها المؤمنون هؤلاء الشهودَ الأربعة, فإننا لن ننسى حق الله علينا, فالذي حرم المحرمات وأمر بالطاعات وأوجب الصلواتِ يرى, والذي أمركِ أيتها المرأة بالحجاب, ونهاك عن التفريط في الحشمة والجلباب يرى, فبئس القوم نحن إن أطعنا الله في بلادنا ونسينا رقابة الله وتركنا حقه يوم سافرنا عن بلادنا.

يا أيها المبارك: وأنت تعد ركائبك حاذر أن تتجه صوب أماكن وجهات تشيع فيها المنكرات, ويعج فيها الفجور, فنفسك ودينك أمانة, وأولادك أمانة, وتعريضُ النفس والأهلِ لمواطن المنكرات ليس من رعاية الأمانة, فكم منكرٍ سيراه المرء, وكم من فتنةٍ ستعرِضُ له, والتسلية والفرجة لا تسوغ له أن يتجه صوب أماكن المنكرات, والتساهلُ في غشيان هذه الأماكن ربما كان ثمنه دين, والله المستعان.

والعاقل يضحي بالمباح في سبيل الحفاظ على الدين والخلق فكيف وغشيان أماكن المنكرات ليس مباحاً بل حراماً.

نعم؛ السفر سببٌ للسعادة, لكن لن يكون كذلك حتى يكون فيه سعادة الروح والقلب, وذلك بطاعة الله والبعد عن معصيته, والتي إذا خلا منها القلب وقصّر فيها البدن فلن يشعر بسعادة ولن يذوق لذّة, وإذا ذاقها فلذةٌ آنية تزول بمفارقة المكان, فلكي تُسعِد في سفرك لتكن نيتك لله, ووجهتك لأماكن لا ينهى عنها شرع الله .

 

الحمد لله وحده والصلاة السلام على من لا نبي بعده .

أيها المؤمنون إن من بركة السفر وأسباب يُسرِه أن يرتسم المسافر هدي نبيه  ج, وذلك أدعى لنيله الأجر والثواب.

فإذا عزمت على السفر فاستَحِل ممن كانت له عليك مظلمة أو له عندك دَيناً, وتحلل منهم فربما كان هذا آخر العهد بالديار.

وتخير لك الرفقة الطيبة, وابتعد عن الوحدة ما قدرت فقد قال الرسول  ج" لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكبٌ بليلٍ وحده " رواه البخاري.

وإذا أجمعت الخروج فودّع الأهل والوالدين بما كان يودع به النبي ق أهل بيته وأصحابه " استودكم الله الذي لا تضيع ودائعه " رواه أحمد وابن ماجة " استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم.

وإن تيسر لك؛ فليكن سفرك يوم الخميس ففيه كانت أسفار النبي ج, وتحرّ الخروج في البكور أول النهار فهو أجلب للبركة وأسرع في بلوغ الغرض في السفر, وفي الحديث " اللهم بارك لأمتي في بكورها " وكان إذا بعث جيشا بعثهم أول النهار.

وتأمير الرفقة لهم أميراً يأتمون بأمره مما يستحب في السفر, لأن به تكثر أسباب الاختلاف والتفرق فلا بد من مرجِعٍ وأمير " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"

أيها المسافر أينما حللت وأقمت وحيثما ظعنت وارتحلت كن خير سفيرٍ لدينك وبلدك, وداعيةً إلى الله بفعلك وسلوكك, وإياك أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابِهم أنهم طلابُ ملذاتٍ وشهوات, فكم شُوِّهت صورةُ المسلمين في بعض البلاد بسبب فعل بعض شبابهم, ولربما صدّت البعضَ عن الإسلام حينما يرى أبناء الصحابة -كما يقال- يأتون وليس هم بعضهم إلا المتعةَ ولو بالحرام .

لذا لا تنس أنك تمثل الإسلام, وتقصيرُك في الطاعات أو إساءتُك في التعاملات ينسبها أهل الديار للإسلام وأهله, فتحرز في ذلك, ولا تنس أنك تتعامل مع الله الرقيب.

أيها المسافر بل أيها المسلم حتى ولو لم تسافر اذكر أن من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, والزور كل منكر من القول والفعل, وأماكن الزور ربما كانت اليوم أقرب مما مضى, كل محفلٍ يعصى الله فيه, كل مكان تقع فيه المعاصي من اختلاط أو غناء, أو مشاهد محرمة فهي أماكن زور, فكن على وجل أن يراك الله شاهداً الزور, أو متسبباً في إشهاد أهل بيتك الزور, حاذِر أن تسمع اللغو, بل أعرض, فلربما تساهل المرء بذلك فسخط عليه مولاه, وباء في سفره بخسران عظيم.

وبعد: فالسفر وسيلة لا غاية, إن تيسر وإلا فلا ينبغي للمرء أن يتحمل الديون لأجله, وليُسلّم أهل البيت للأمر, وينبغي أن يستقر في النفوس أنه يمكن أن تكون ثمة إجازة بلا سفر, فليس كل الآباء قادراً, في ماله أو في وقته, وحتى ولو كان قادراً فثقافة أنه لا بد في كل إجازة سفر ثقافة وافدة, ومرهقة على الأولياء, اجتماعياً وتربوياً ومالياً.

وكم يجمل بنا ونحن في إجازة طويلة, أن نُشيع في أنفسنا ومَن هم تحت أيدينا حين نبقى بلا سفر, أنه ينبغي لنا أن نخرج منها بثمرةٍ تعود علينا في دنيانا وأخرانا, ففي أيامٍ كهذه تُبنى قيم, وتعلو همم, وتُحصَّلُ علوم, وتُكتسب مهارات, وتُحفظ علوم, والقضية توفيق واستغلال للزمن.

وأخيراً فما أحوجنا إلى أن نتذكر ونحن نسافر ذلك السفر الطويل الذي لا رجعة بعده إلى عالم الدنيا وما أقربه كل حي، السفر الذي عدّته طاعة الله, والرفيق فيه العمل الصالح, وراحلته الأيام والليالي, ونحن منذ برغ فجر دنيانا في سفر إلى الآخرة, فماذا أعددنا للربح فيه والفوز؟.

فما المرءُ إلا راكبٌ ظهر عمره        على سفرٍ يُفنيه باليوم والشهرِ

يبيت ويُضحي كل يومٍ وليلةٍ        بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر

 

المشاهدات 956 | التعليقات 0