زيغ القلوب

عبدالله التميمي
1439/10/14 - 2018/06/28 16:21PM

إن الحمد لله  نحمده و نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا       أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ .

أيها المسلمون: خلقَ اللهُ الإنسانَ في أحسنِ تقويم ، وفي خلقه من الآياتِ والمعجزاتِ ما الله به عليم ، وقلبُ الإنسانِ من عجيبِ صنع الخالق ، وحسن إبداعه ، تلك المضغةُ التي حواها جوفُ ابنِ آدم ؛ فكانت ملكاً لسائر بدنه ، يصلح بصلاحها ويفسد بفسادها ، توجهه وتمنعه ، تخفضه وترفعه ، تضره وتنفعه ، تفرقه وتجمعه ، حجم صغير وأثر كبير.

 يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ " رواه البخاري ومسلم ، يقول أبو هريرةُ رضي الله عنه: " الْقَلْبُ مَلِكٌ وَلَهُ جُنُودٌ ، فَإِذَا صَلُحَ الْمَلِكُ صَلُحَتْ جُنودُهُ ، وَإِذَا فَسَدَ الْمَلِكُ فَسَدَتْ جُنودُهُ ".

 ولذا كان محطَّ نظرِ الربِ جل وعلا والأعمالُ الناشئةُ عنه ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم " رواه مسلم، ومن هنا وجب على المرءِ أن يعنى بصلاحِ قلبه  وتفقد أحواله ؛ إذ لا نجاةَ يومَ الدينِ إلا بالقلب السليم.

عباد الله: القلب كثير التقلب والآفات ؛ فما سمي قلباً إلا لكثرة تقلبه ، والآفات التي تغشاه شتى ، ألا وإن أخطرَ هذه الآفاتِ مرضُ الزيغ ، الذي هو الميلُ والانحرافُ عن الحقِ مع شكٍ فيه بعد ثباتٍ ويقين.

 إن الزيغ داء خطير ، إذ به يرتكس القلب ، ويحور بعد كوره ، وتزل الأقدام بعد ثبوتها ، ويُنقض الغزل من بعد القوة أنكاثاً. وأشدُ ما يكونُ الزيغُ خطراً زيغُ العالمِ ومن يُقتدى به ؛ لكثرة من يتبعه ، مع ما قد يُلِّبسُ به زيغَهُ من الحق ، قال زِيَادُ بْنُ حُدَيْرٍ: قَالَ لِي عُمَرُ: «هَلْ تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟» قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَ: «يَهْدِمُهُ زَلَّةُ الْعَالِمِ ، وَجِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْكِتَابِ ، وَحُكْمُ الْأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ ».

هذا، وإن لداءِ الزيغِ أعراضاً وعلامات ، يجمل العلم بها لتجتنبَ حالَ السلامة ، ويُعَاَلَجُ القلبُ حالَ وجودها ، فمن تلك العلامات: اتباعُ المتشابه من نصوص الوحي الذي في دلالتها اشتباه ، وترك الواضح الذي لا اشتباه فيه  كما قال الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾.

 ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "فَإِذَا رأيتَ الَّذِينَ يتَّبِعُون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ "رواه البخاري . ومن علامات زيغ القلب: الشك في ثوابت الدين ومحكماته ، كمن شكك في تكفير اليهود والنصارى بعد بعثة النبي  صلى الله عليه وسلم ، أو شكك في حرمة اختلاط الرجال بالنساء فيما لا ضرورة فيه ؛ فقد فسر ترجمان القران ابن عباس رضي الله عنهما قولَ الله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ بأنهم أهل الشك .

 ومن علامات الزيغ: تبدلُ الآراءِ الشرعيةِ بمعزلٍ عن الأدلة ِالمعتبرة ، يقول حذيفةُ رضي الله عنه: "مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْلَمَ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ أَمْ لَا فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا مَا كَانَ يَرَاهُ حَلَالًا ، أَوْ يَرَى حَلَالًا مَا كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا ، فَقَدْ أَصَابَتْهُ الْفِتْنَةُ" رواه الحاكم وصححه .

أيها المؤمنون: زيغ القلوب داء مبدؤه المرء ، لمّا تلبس بأسباب الزيغ أزاغ الله قلبه ، ولا يظلم ربك أحداً ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ .

 ومن أهم أسباب الزيغ: الانهماك في الدنيا ونسيان الآخرة وضعف الإيمان بها: كما قال سبحانه ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ﴾، قال ابن عباس في تفسيرها: ولتزيغَ إليهِ قلوبهم ، ونسيانُ الآخرةِ أعظمُ سببٍ للطغيان ، ألم يقلِ الله ُعن فرعونَ وجنودِه: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ﴾ والكبرُ والإعراضُ عن الحقِ من أسبابِ زيغِ القلوب ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ .

ومن أسبابِ زيغ القلوب: الاسترسالُ مع وساوسِ الشيطانِ وعدمُ قطعها ، ولذا كان من علامة يقظة القلب سرعة تبصره عند وقوع زيغ فيه كما سبحانه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ ﴾(أي: زيغ) ﴿ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾  أي: يعرفون أنهم في غي وحينئذ يستغفرون الله تعالى.

ومن أسباب الزيغ: مصاحبة الزائغين من المبتدعة والمفتونين والاستئناس بهم والدخول في مواقعهم والنظر إلى برامجهم وقراءة كتبهم ، يقول عمرو بن قيس: "لا تجالس صاحب زيغ فيزيغَ قلبُك" ، فالقلوب ضعيفة ، والشبه خطافة ، والمعصوم من عصمه الله.

 ومن أسباب الزيغ: ترك شئ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، وإني لأخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ " رواه ابن بطة.

 

بارك الله لي ولكم لي الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من آيات وحكمة أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.

 

الحمد لله على إحسانه ، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا .

معشر المؤمنين: بتجنب أسباب المرض تحصل الوقاية بأمر الله، والأدواء تعالج بأضدادها، والوقاية خير من العلاج، وإن ثمة أموراً تقي القلب من داء الزيغ ، وتعالجه حال وقوعه بأمر الله ، جماع هذه الأمور: الرسوخ في العلم المتلقّى من الأدلة الشرعية وأهله الراسخين الذين من أبرز صفاتهم:

ردُّ المتشابه من النصوص إلى المحكم الواضح ، والاطرادُ في المنهج والمبادئ التي قامت على أصول ثابتة ، والخشيةُ، وذكرُ الموتِ والدارِ الآخرة ، والتواضعُ للخلق والحق ، والعملُ بالعلم ، وخوفُ الزيغ ، ولزومُ عتبة الدعاء ألا يزيغ الله القلب ؛ فمن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الوارد ، "يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ، يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك" ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه  فقال في مُحكَم التنزيل:( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا )




المشاهدات 3855 | التعليقات 0